و الانفصال من مبتدعات المصري، و
قد عرّفه بقوله: «هو أن يقول المتكلم كلاما يتوجه عليه
فيه دخل إذا اقتصر عليه فيأتي بعده بما ينفصل به عن ذلك إما ظاهرا أو باطنا يظهره
التأويل»[4] كقوله
تعالى:وَ
ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ
أَمْثالُكُمْ[5].
فانّ على ظاهر هذه الآية حصل من جهة أنّ الطائر يطير بجناحيه فيكون
الاخبار بذلك عريا عن الفائدة، و الانفصال عن ذلك هو أنه سبحانه لما قال:وَ ما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ أوجبت البلاغة أن يردف ذلك بقوله:وَ لا طائِرٍ في السماء أو في الجويَطِيرُ بِجَناحَيْهِ فأراد الايجاز فوجب أن يحذف إحدى
الجملتين إما في السماء أو «يَطِيرُ». و لا فيها من الضمير، و لا سبيل الى حذف الفعل لأنّه الذي يتعلق به
الجار و المجرور الذي يمرّ بجناحيه و ذكره مطلوب في الآية؛ لأن ذكر الجناح يفصل
صاحبه من الهمج الذي يظهر و هو يخال أنّه يطير كالنمل و الجعلان و غير ذلك، لأنّ
هذا الصنف قد ذكر في نصف ما دبّ و درج في الأرض. و الآية قصد بها صحة التقسيم
لأنّه- سبحانه- لما استوعب كل ما يدبّ على الأرض في صدرها أراد الإتيان بما يعمّ
الذي يطير في الجو، و لا يطير في الجو إلا طائر، و لا يسمى طائرا إلا إذا طار
بجناحين، و لا تسمى آلة الطيران جناحا إلا اذا كانت ذات قصب و ريش و أباهر و خوافي
و قوادم، فقوله- سبحانه-:وَ لا طائِرٍ بعد ذكر الدواب موضّح لما أراد من صحة التقسيم، و لفظة «طائر» رشّحت لفظة «يطير» لمجيئها
بعدها و لفظة «يطير» رشحت الاتيان بلفظة «الجناحين» فحصل من مجموع ذلك الانفصال عن الدّخل المتوجه الى ظاهر الآية.
و منه قول أبي فراس:
في
حرام الناس إن كن
ت
من الناس تعدّ
و
لقد نبّيت إبلي
س
إذا راك يصدّ
ليس
من تقوى و لكن
ثقل
فيك و برد
فانّ أبا فراس لو اقتصر على البيت
الثاني لكان الهجاء فيه غير مخلص، و كان يتوجه دخل بسبب احتمال البيت للمدح و
الاتيان به في معرض الهجو فانفصل عن هذا الدخل بالبيت الثالث.
و فرّق المصري بينه و بين الاحتراس
بقوله: «و الفرق بينه و بين الاحتراس، عموم
الاحتراس و خصوص هذا الباب لأنّ البيت المدخول من هذا الباب يكون الدخل المتوجه
عليه من جهة كونه صالحا لضدين من الفنون و هو في سياق أبيات مقصودة في فن واحد
منهما، و الاحتراس يكون بيته مدخولا من هذا الوجه و غيره»[6]. و قال أيضا: «إنّ الاحتراس هو ما فطن له الشاعر أو الناثر وقت العمل فاحترس منه، و
الانفصال ما لم يفطن له حتى يدخل عليه فيأتي بجملة من الكلام أو بيت من الشعر
ينفصل عنه ذلك الدخل»[7]. و فرّق