عدده فى عدد معلوم، لكن الرصد قد دل على أن الأفلاك تسعة، و قام
الدليل على أن لكل فلك نفسا، و لكل نفس عقلا، و العقول المفارقة تسعة و النفوس
تسع.
ثم اعترض على ذلك فقال: أتعبتم أنفسكم معاشر الحكماء عن استنباط
أمثال هذه المعانى الدقيقة التي لا يرتضيها الفقيه لنفسه فى مظان المظنونات، و لا
يربط بها حكما من الشرعيات، فكيف الحكيم الذي يتكلم فى أعلى علوم الالهيات/ 105؟!
أ ليس الامكان قضية شاملة لجميع الممكنات؟ فلئن كان العقل الأول باعتبار امكانه
مبدعا للهيولى التي لها طبيعة عدمية، فكل موجود ممكن حاله فى الامكان حال العقل
الأول، فليصلح مبدعا للهيولى.
و إن كان العقل باعتبار وجوب وجوده بالأول مبدعا للصورة التي لها
طبيعة وجودية، فكل موجود واجب بالغير حاله فى الوجوب حال العقل الأول، فليصلح
مبدعا للصورة، و ليس الأمر كذلك/ 106.
و لو عكس الأمر فى ترتيب الكائنات حتى يكون العقل الأول آخرا و
الجسم المركب أولا، لم يكن الأمر بذلك المستبعد الذي قرره، فان الجسم انما يتكثر
بالصورة و الهيولى، و العقل يتكثر بالوجوب و الامكان. فالصورة كالوجوب و الهيولى
كالامكان، و اذا جاز أن يصدر عنه شىء هو هيولى و صورة و لا يتكثر الواجب به كما
لم يتكثر بذلك/ 107.
و نقول: لو كان العقل الأول من حيث إمكانه مكانه موجبا للهيولى، و
من حيث وجوبه موجبا للصورة، لكان الموجود الثاني بعد العقل الأول هو الجسم المركب
من مادة و صورة، و لكانت المفارقات بعده فى الوجود. و هذا خلاف ما أوردوه فى كتبهم
فى ترتيب الموجودات.
و ربما يقول ابن سينا فى بعض تعاليقه: أن العقل الأول بما يعقل
ذاته، يصدر عنه نفس، و بما يعقل الأول، يصدر عنه عقل/ 108.
و ربما يقول فى بعض مصنفاته: أنه يصدر عنه نيف و أربعون عقلا هى
المفارقات.
و قد تخبط كلامه فى هذا الموضع عامة التخبط، فلم يمكنه أن يورد ذلك
بناء على برهان قويم و صراط مستقيم. و من تعاطى علم ما فوقه، ابتلى بجهل ما تحته/
109.
و نقول: مثل هذه الوجوه و الاعتبارات التي فى العقل الأول، لو
أوجبت موجودات عقلية معا متكثرة بأعيانها و لم توجب كثرة فى ذات العقل، لجاز أن
يصدر عن الواجب بمثل هذه الوجوه و الاعتبارات موجودات عقلية معا متكثرة بأعيانها،
و لا يوجب ذلك كثرة فى ذات واجب الوجود حتى يقال: بأن يعقل ذاته، صدر عنه عقل، و
بأن وجب وجوده، فاضت عنه نفس، و بأن عقل العقل الأول، صدر عنه اما صورة أو هيولى و
صورة الى غير ذلك من التحكمات.