و لم يكن علم الأصول مستقلا عن علم الفقه في البداية، و لكن من خلال نمو علم الفقه و اتساع أفق التفكير الفقهي أخذت الخيوط العامّة و العناصر المشتركة في عملية الاستنباط تبدو و تتكشّف، و أخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامّة لا يمكن استخراج الحكم الشرعي بدونها، و كان ذلك إيذانا بمولد علم الأصول و اتجاه الذهنية الفقهية اتجاها أصوليا، فانفصل علم الأصول عن علم الفقه في البحث و التصنيف و أخذ يتسع و يثري تدريجيا من خلال نمو الفكر الأصولي من ناحية و تبعا لتوسع البحث الفقهي من ناحية أخرى، لأن اتساع نطاق التطبيق الفقهي كان يلفت أنظار الممارسين إلى مشاكل جديدة فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة و تتخذ الحلول صورة العناصر المشتركة في علم الأصول.
و كلما بعد الفقيه عن عصر النص تعددت جوانب الغموض في فهم الحكم من مداركه الشرعية و تنوّعت الفجوات في عملية الاستنباط نتيجة للبعد الزمني، فيحس أكثر فأكثر بالحاجة إلى تحديد قواعد عامّة يعالج بها جوانب الغموض و يملأ بها تلك الفجوات.
و بهذا كانت الحاجة إلى علم الأصول تاريخية بمعنى أنها تشتدّ و تتأكّد كلما ابتعد الفقيه تاريخيا عن عصر النص و تراكمت الشكوك على عملية الاستنباط التي يمارسها (1). و على هذا الأساس يمكن أن
(1) فبعد ما كان الرواة معروفين في زمانهم صاروا مجهولين في زماننا، و بعد ما-