و الحقيقة أن الدليل إذا كان قطعيا فالتعارض غير متصوّر عقلا بينه و بين الأصل، لأن الدليل القطعي على الوجوب مثلا يؤدّي إلى العلم بالحكم الشرعي، و مع العلم بالحكم الشرعي لا مجال للاستناد إلى أيّ قاعدة عملية، لأن القواعد العملية إنما تجري في ظرف الشك، إذ قد عرفنا سابقا أن أصل البراءة موضوعه كل ما لا يعلم، و الاستصحاب موضوعه أن نشكّ في بقاء ما كنّا على يقين منه، فإذا كان الدليل قطعيا لم يبق موضوع هذه الأصول و القواعد العملية.
و إنما يمكن افتراض لون من التعارض بين الدليل المحرز و الأصل إذا لم يكن الدليل قطعيا، كما إذا دلّ خبر الثقة على الوجوب أو الحرمة- و خبر الثقة كما مرّ بنا دليل ظني حكم الشارع بوجوب اتباعه و اتخاذه دليلا- و كان أصل البراءة من ناحية أخرى يوسّع و يرخّص. و مثاله خبر الثقة الدالّ على حرمة الارتماس على الصائم، فإن هذه الحرمة إذا لاحظناها من ناحية الخبر فهي حكم شرعي قد قام عليه الدليل الظني، و إذا لاحظناها بوصفها تكليفا غير معلوم نجد أن دليل البراءة (رفع عن أمتي ما لا يعلمون) يشملها، فهل يحدّد الفقيه في هذه الحالة موقفه على أساس الدليل الظني
- عن وجوبها أو نستصحب عدم وجوبها؟! حتما لا لأن الشارع المقدّس حينما اعتبر الدليل المحرز (كخبر الثقة) حجّة يعني ذلك وجوب اتباعه و عدم جواز الرجوع إلى الأصل العملي، لأن الأصل العملي وظيفة من لا دليل محرز لديه هذا خلاصة البحث.