ثمّ لم تكن دعوتهم منحصرة في تلك الأصول
الكلية التي توافق عليها جميع العقلاء بل دعوا إلى أحكام و سنن غيرها متعلّقة
بشئون حياتهم المختلفة، و مع ذلك ليست هي من الأحكام المقبولة بل و لا المعروفة
عند الجميع، و السرّ في ذلك أنّ الأحكام المتعلّقة بأفعال الإنسان على قسمين: قسم
يستقلّ العقل في الوقوف عليه، و قسم ليس كذلك، كما أنّ القسم الأوّل أيضا على
نوعين؟ ما هو بديهي عند العقل و ما ليس كذلك.
أضف إلى ذلك أنّ من الناس من لم يؤمن
بشريعة سماوية أصلا، و أنكر بعثة الرسل الإلهيين رأسا كالبراهمة، كما أنّ منهم من
أنكر صانع الكون فضلا عن الأنبياء و تعاليمهم السماوية، مع أنّ الجميع مشتركون في
الحكم بحسن بعض الأفعال و قبح بعض آخر منها، فلا مناص من مبدئ مشترك بين الكل، و
ليس إلاّ قضاء العقل البديهي.
2. لزوم إنكار الحسن و القبح مطلقا
احتجّت العدلية على الحسن و القبح
العقليّين بأنّ إنكار ذلك يستلزم إنكار الحسن و القبح مطلقا، قال المحقّق الطوسي:
«و لانتفائهما مطلقا، لو ثبتا شرعا» . 1
الحجّة-كما ترى-صيغت على غرار قياس
استثنائي يستدلّ فيه على بطلان المقدّم، ببطلان التالي، نظير قوله سبحانه: لَوْ
كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا
(الأنبياء/22 و بطلان التالي (انتفاء الحسن و القبح مطلقا) بوضوحه غنيّ عن البيان،
فالعمدة فيه هي بيان الملازمة بين المقدم و التالي فنقول:
إنّ من الأفعال القبيحة: الكذب و اللّغو
و العبث، فإن كان القبح ثابتا لها قبل ورود الشرع، يصحّ لنا أن نحكم بحسن ما ورد
في الشريعة و قبح ما ورد فيها،
[1] كشف المراد، المقصد الثالث، الفصل
الثالث، المسألة الأولى.