لنبدأ الآن بدراستنا الفلسفية للإدراك ـ بعد أن أوضحنا مغزاها وصلاتها بمختلف الدراسات العملية ـ طبقاً للمنهج الفلسفي في الدراسات النفسية ، والذي يتلخّص ـ كما ألمعنا إليه سابقاً ـ في أخذ الحقائق العلمية والمسلّمات التجريبية ، وبحثها على ضوء القوانين والأصول المقرّرة في الفلسفة ؛ لاستنتاج حقيقة جديدة وراء ما كشفت عنه التجارب من حقائق .
ولنأخذ الإدراك العقلي للصورة المبصرة ، نموذجاً حياً للحياة العقلية العامة التي تتصارع حول تفسيرها الفلسفتان : الميتافيزية ، والمادّية ، فمفهومنا الفلسفي للإدراك يرتكز :
أوّلاً ـ على الخصائص الهندسية للصورة المدرَكة .
ثانياً ـ على ظاهرة الثبات في عمليات الإدراك البصري .
أمّا الأوّل ، فنبدأ فيه من حقيقة بدهية نأخذها من حياتنا اليومية ومختلف تجاربنا الاعتيادية ، وهي : أنّ الصورة التي تتحفنا بها العملية العقلية للإدراك البصري تحتوي على الخصائص الهندسية : من الطول ، والعرض ، والعمق ، وتبدو بمختلف الأشكال والحجوم . فلنفرض أنّنا زرنا حديقة تمتدّ آلاف الأمتار ، وألقينا عليها نظرة واحدة ، استطعنا فيها أن ندرك الحديقة كلاً متماسكاً ، تبدو فيه النخيل ، والأشجار ، وبركة الماء الكبيرة ، وألوان الحياة المتدفّقة في الأزهار والأوراد ، والكراسي الموضوعة بانتظام حول بركة الماء ، والبلابل ، والطيور التي تشدو على الأغصان . والسؤال الذي يعترضنا حول هذه الصورة الرائعة التي أدركناها بنظرة مستوعبة هو : ما هي هذه الصورة التي ندركها ؟ وهل هي نفس الحديقة وواقعها