حتى لقد خشي عليه من ذلك أن يرد-أعاذه اللّه-مورد المهالك، و قد تألّم لألمه جميع العلماء، و تصدّع بما أهريق من دمه كافة الأحبّة و الأخلاّء، و جعلت الناس مع اختلاف طبقاتها تختلف لعيادته في جميع أوقاتها. و لقد كنت ذلك الوقت أكثر الأحباب حرصا على ملازمته و أشد الأصحاب حبّا لتسليته و منادمته، فتارة أونسه بذكر لبنان و ما في رياضه من الرند و البان، و أخرى أسلّيه بقراءة الشعر المليح و النثر الموشح بخمايل القيصوم و الشيح، و هو إذ ذاك يطرب للغزل في الديار، و يهش للتشبيب في الغانيات الأبكار، و يرتاح لاستماع الهزل و المجون، كما يرتاح البطل الشجاع للحرب الزبون، و يكره من الشعر ما اشتمل على موعظة أو رثاء، و ربّما مال في بعض الأحوال إلى ما فيه نوع تلميح أو هجاء، و ما زلت معه هكذا مساء و صباحا و غدوّا و رواحا، حتى مضت لنا على ذلك أيام كأنّها أحلام، عرضت لي لبانة شغلت بها عن ورودي إليه و وفودي عليه، فظنّ أنّ انقطاعي عنه كان لسأم و أغراض، و لم يكن لغرض غير ذلك من الأغراض، فأنشأ عدّة مقطوعات على سبيل الارتجال و بعث بها إلي. و إليك بعض الأبيات من كلّ مقطوعة، قال في الأولى:
لو كان يعلم نجل صادق ما بي # لأزال ذياك الخليط عذابي
يدري فدته نفوس أرباب النهى # أنّي من الوجد القديم لما بي
فلكم قضيت زمان أنس قد مضى # في عامل مع جملة الأحباب
هلاّ رعى للمستهام بعامل # أيام شرخ شبيبة و تصابي
و لمّا استبطأ منه الجواب كتب إلى السيّد صالح القزويني و الشيخ أحمد خاله، يشكو إليهما جفاءه في اليوم الثاني، قال فيها:
إنّي لأقسم بالسفيح و صحبه # و بطيب عيش مرّ بي في جنبه
و بمجد مولانا أبي المهدي من # قد كدت أن أقضي أسى من حبّه
و بخالنا ذاك البلاغي الذي # لا زال مجتهدا بخدمة ربّه