و أشدهم بالدين تمسكا، فمنهم المحدثون و النبل المشهورون و العلماء المتقدمون و العباد المجتهدون.
فإن قال قائل: كيف تدفع فارس عن حسن التقية مع
قول النبي (صلى اللّه عليه و سلم): لو كان الإيمان معلقا [1] بالثريا لنالته رجال من فارس؟
قلنا له: في هذا القول دليل على رغبة الموصوفين في الدين و مسارعتهم إليه و تمسكهم بسنن النبي (صلى اللّه عليه و سلم) فيه.
و إنما هو كقولك: لو كنت في أقاصي البلاد لزرتك، فزيد: لتجشّمت الوصول إليك رغبة في لقائك. و خبر رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم) من الأمر يكون فيما بعد إنّما هو عن اللّه عزّ و جلّ. و لا خلف لقول اللّه و لا تبديل. فإذا نحن تطلبنا مصداق هذا القول في أهل فارس لم نجده أولا و لا آخرا، إلّا أن أول أمرهم في الإسلام على ما قد علمت من شدة العداوة للمسلمين و محاربتهم إياهم حتى قهروا و هزموا و طلبوا و مزقوا، و لم تجد لهم [157 أ] بعد ذلك رجالا برعوا في العلم و عرفوا بالحفظ للأثر و التفقه في الدين و الاجتهاد في العبادة إلّا أن تجد من ذلك الشيء اليسير و النبل المغمور.
فإن قال قائل: كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم)، جعله في أهل فارس فكيف جعلته في أهل خراسان؟ قلنا: إن فارس و خراسان كانتا عند العرب شيئا واحدا إلّا أنهما يتحاذّان و يتصلان، لأن لسان أهل خراسان و فارس بالفارسية، فهم يسمون جميعا الفرس. و كذلك المتكلمون بالعربية عند من لا يفصح من الأعاجم، عرب جميعا.
قال الشاعر يذكر بلاد فارس:
في بلدة لم تصل عكل بها طنبا* * * و لا خباء، و لا عكّ و همدان
و لا لجرم و لا الاتلاد من يمن* * * لكنها لبني الأحرار أوطان
أرض يبنّي بها كسرى مساكنه* * * فما بها من بني اللخناء إنسان
و روى أبو الجلد عمر بن جيلان قال: الدنيا كلها أربعة و عشرون ألف
[1] في الأصل: معلق. أما التقية الواردة هنا فقد نقل صاحب لسان العرب (وقي) عن ابن الأعرابي قوله: التّقاة و التّقيّة و التّقوى و الاتّقاء: كله بمعنى واحد.