وبذلك يجاب عمّا يقال بأنّه لولا العلقة
الذاتية بين اللفظ والمعنى يلزم الترجيح بلا مرجح ، وذلك لما عرفت من أنّه يكفي
وجود التناسب الوهمي والخيالي وغيرهما في انتخاب اللفظ ولا يحتاج إلى المناسبة
الذاتية.
الجهة الثالثة : في
تعيين الواضع
إنّ الإمعان في الحياة البشرية الغابرة
، يُثبت بأنّ الحضارة الإنسانية بأبعادها ليست وليدة يوم أو شهر أو سنة ، بل
الإنسان خرج من البداوة والحياة الفردية إلى الحياة الاجتماعية بالتدريج فهو عبْر
تعمير الأرض بأنحائها المختلفة كان بحاجة شديدة إلى المفاهمة والمكالمة ، وقد خلق
اللّه سبحانه مادتها في فطرته ، وقال : (علّمه
البيان)
فالحاجة دعته إلى إفهام ما في ضميره من الحوائج بإنشاء ألفاظ مقابل معان بالتدريج
فلو قلنا إنّ لكلّ لغة واضعاً ، فالواضع هو البشر عبر الزمان بإذن اللّه سبحانه
بالتدريج ولم يزل الأمر كذلك في مستقبل الحضارة حيث انّ الألفاظ تزداد ، وفق زيادة
المعاني.
ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ الواضع هو
اللّه تبارك وتعالى ، وهو الواضع الحكيم حيث جعل لكلّ معنى لفظاً مخصوصاً باعتبار
مناسبة بينهما مجهولة عندنا ، وجعله تبارك وتعالى هذا واسطة بين جعل الأحكام
الشرعية المحتاج إيصالها إلى إرسال رسل وإنزال كتب ، وجعل الأُمور التكوينية التي
جبل الإنسان على إدراكها كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء ونحو ذلك.
فالوضع جعل متوسط بينهما لا تكويني محض حتى لا يحتاج إلى أمر آخر ، ولا تشريعي صرف
حتى يحتاج إلى تبليغ نبيّ أو وصيّ ، بل يلهم اللّه تبارك وتعالى عباده على
اختلافهم كلّ طائفة بالتكلّم بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص.