جسده على طاعته، و فرغ روحه لمراقبته، أطلعه سبحانه على جلال
عظمته، و كمال معرفته، و سقاه من شراب حبّه، و اختصّه بشرف قربه، فما في فؤاده
إلّا إيّاه، و ما في لسانه إلّا ذكراه، يفني وجوده في شهوده إذا هو ناجاه، و يصفو
أبحر ندّه في سجوده عمّا سواه، قد استشعر لباس المراقبة، و حاسب نفسه قبل
المحاسبة.
يأنس بالظلام إذا الليل
سجى، و يستضيء بأنوار الكشف إذا الغسق دجا، و يستوحش من الخلق في حال خلوته مع
حبيبه، و يستنشف نفحات الحقّ إذ هو كمال مطلوبه، رقي لقدم صدقه صفوف الكروبيّين
بروحانيّته، و طار بقوادم عشقه ففات أشباح الصافّين الحافّين بإخلاص محبّته، جذبته
يد المحبّة بزمام العناية إلى حضرة معشوقه، و أزاحت كدورات الطبيعة عن مسالك
طريقه، حتى إذا آيس من جانب طور قيّوم الملكوت أنوار عظمته، و استأنس بمناجاة صاحب
العزّة و الجبروت و اطّلع على أسرار إلهيّته، و قرع بيد إخلاصه شريف بابه، و أصغى
بصماخ (وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)[1] إلى لذيذ خطابه، و أشعر
قلبه لباس الخضوع بين يديه، و أحضر لبّه جلال من وجّه مطايا عزمه إليه، و شاهد
بعين يقينه عزّة هيبة سلطانه، و قطع العلائق عمّا سوى القيام بشروط الخدمة لكبرياء
عظم شأنه.
كشف فياض العناية به
الحجاب عن جلال كمال عزّته، و رفع النقاب عن ذلك الجناب فأدرك بكمال عرفانه بهجة
حضرته، أجلسه على بساط المنادمة في غسق الدجا، و ناجاه بلسان المحبّة و قد برح
الخفا، و سقاه بالكأس الرويّة من شراب (يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ)[2]، و يثب في
مدارج السلوك إلى عين اليقين