وبالجملة : فتفويض التدبير إلى العباد
قسم من استقلال العبد في فعله وعمله عمّن سواه ، سواء أكان ذاك الاستقلال في
الأفعال الراجعة إلى نفسه كمشيه وتكلّمه ، أم في الأفعال الراجعة إلى تدبير العالم
والحوادث الواقعة فيه ، غير أنّه لما كان زعم الاستقلال في أفعال الإنسان العادية
بحثاً فلسفياً بحتاً لم يتوجه إليه مشركو الجاهلية ، لذلك خصوا البحث بالاعتقاد
باستقلالهم في تدبير العالم.
وإن أصبح الأوّل أيضاً مثار بحث ونقاش
في العهود الإسلامية الأُولى ، بحيث قسّم الباحثين إلى جبري وتفويضي.
والخلاصة : أنّ الأمر دائر بين كون
العبد ذا فعل بالاستقلال والانقطاع عن الله سبحانه ، أو كونه ذا شأن بأمره تعالى
وإذنه ومشيئته ، وليس التفويض أمراً ثالثاً ، بل هو داخل في القسم الأوّل.
وأمّا الاعتقاد بأنّ القدّيسين من
الملائكة والجن ، أو النبي والولي مدبّرون للعالم بإذنه ومشيئته ، وأمره وقدرته من
دون أن يكونوا مستقلين فيما يفعلون ، أو مفوّضين فيما يصدرون فلا يكون ذاك موجباً
للشرك ، بل أمره دائر ـ حينئذ ـ بين كونه صحيحاً مطابقاً للواقع كما في الملائكة ،
أو غلطاً مخالفاً للواقع كما في النبي والولي ، فإنّ الأنبياء والأولياء غير
واقعين في سلسلة العلل والأسباب ، بل هم كسائر الناس يستفيدون من النظام الطبيعي
بحيث يختل عيشهم وحياتهم عند اختلال تلك النظم ، ومعلوم أنّه ليس كل مخالف للواقع
يعتبر شركاً إذ عند ذاك يحتل الولي مكان العلّة الطبيعية والنظم المادية ، وليس
الاعتقاد بوجود هذا النوع من العلل والأسباب مكان النظم المادية للظاهرة شركاً.