أمّا بعد: فلقد كان من
أمنيّتي فيما لو اتيحت لي الفرصة و ساعدني التوفيق أن أقوم باحياء هذا التراث
القيّم النفيس، و بعثه من مرقده، و نفض الغبار عن وجهه، و كشف الغمام عن بدره، لما
فيه من فوائد جليلة، و منافع كثيرة، و لم يسمح لي الدّهر بالفراغ، و عاقتني عن ذلك
العوائق، فمرّت على ذلك سنون، و لم أجد إلى المأمول سبيلا، كما أنّي لم أر في تلك
المدّة من يقوم بأمره، أو اعتنى بشأنه، أو يجنح إلى تصحيحه و نشره، و لا من يحنو
عليه لاحيائه، أو يخطو خطوة لاصلاحه، و لا تنهض الهمّة بأحد لتحقيقه و طبعه.
و كانت المطبوعة
الحجريّة منه كثيرة الأغلاط، مشوّهة الخطوط، محرّفة الألفاظ، و من كثرة السّقط و
التحريف فيه صار سهله نقلا، و حزنه جبلا، فقد ينقضي اليوم و اليومان و لا يجد
الباحث إلى فهم بعض جمله سبيلا و لا إلى المقصود دليلا، و ربّما يجتهد طيلة ليل
يطلب ربط جملتين أو يمضي يوما تامّا في فهم عبارتين و لا يرجع إلّا بخفّي حنين، و
قلّما يوجد فيه سند سلم من التحريف، بل الغالب على أسانيده الاعضال بالتصحيف، و
المظنون عندي أنّ الشيخ أبا الفرج القنانيّ راوي الكتاب أو الّذي أخذ عنه كان
رديء الخطّ، و الناسخون لم يتمكّنوا من استخراجه صحيحا، و لذا شاع في النّسخ
الخطيّة من هذا الكتاب الإبهام و الغموض، و المسخ و التحريف و الاختلاف، و
مصحّحها- مع كونه من العلماء- مهما جدّ و اجتهد لم يقدر على إصلاح جلّ أخطاء
الكتاب، و من جرّاء هذا الأمر صار هذا الأثر الثّمين متروكا مغفولا عنه، و غار
نجمه في ستار سخافة طبعه، و كثرة أغلاطه، و حجبت شمسه بسحاب غموض عباراته و
تحريفاته، و سبّب ذلك ابتعاد الناس عن دراسته، و انصرافهم عن قراءته، فترك الكتاب
مهجورا في زوايا المكتبات، مغمورا في خبايا الغرفات، تراه يتململ تململ السّليم، و
يستصرخ استصراخ الظليم[1]،
[1]. السليم: اللديغ أو الجريح الذي أشرف على
الهلاك، و الظليم: المظلوم.