و من هذه الأدلة العقلية و السمعية ظهر لك ان الواجب هو المعرفة عن الدليل و البرهان و لا يكفي صرف الاعتقاد الحاصل غالباً من تقليد من الآباء و الامهات لأن الواجب هو العلم، و التقليد ليس بعلم، كيف و قد ذم اللّه سبحانه و تعالى التقليد في اصول الدين و العقائد حيث قال جلَّ شأنه في ذم الكفار قالوا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ. و حث على النظر و الاستدلال بقوله تعالى: ائْتُونِي بِكِتٰابٍ مِنْ قَبْلِ هٰذٰا أَوْ أَثٰارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ.
في اثبات الصانع و اثبات توحيده، لا بد من تمهيد مقدمة (اولًا) و هي ان كل معنى يتصور في الذهن اذا نسبناه الى الوجود الخارجي، يعني لو فكّرنا انه هل هو موجود فعلًا او لا؟، و على الثاني يقبل الوجود او لا؟، و هل وجود ما هو موجود من ذاته او من غيره؟، و نرجع فنقول: كل معنى ذهني اذا قسناه الى الوجود فأما ان يكون نفس ذاته يقتضي أن يكون موجوداً، أي لو تصورناه مع قطع النظر من كل شيء سوى ذاته لكان موجوداً.
و أما ان يكون نفس ذاته يقتضي ان لا يكون موجوداً، و أما ان يكون نفس ذاته لا يقتضي الوجود كما لا يقتضي العدم، بل هي في حلق الوسط بين الطرفين لا يقتضي هذا و لا ذاك. فالأول هو واجب الوجود لذاته، و الثاني هو الممتنع أي المستحيل لذاته، و الثالث هو الممكن الذي لا تقتضي ذاته الوجود و لا العدم، فقد يوجد و قد لا يوجد، فإن اقتضت علته وجوده وجد و صار موجوداً و واجباً بالغير، و ان لم توجد علة وجوده او وجدت علة عدمه كان ممتنعاً بالغير. و من هنا ظهر ان الواجب تارة يكون واجباً بالذات و هو واجب الوجود و تارة واجباً بالغير و هو الممكن الذاتي الذي وجد بوجود علته. و كذلك الممتنع تارة بالذات و هو المستحيل كاجتماع النقيضين و تارة بالغير و هو الممكنات الذاتية التي لم تتحقق علة وجودها، و يمتنع تحقق المعلول بدون العلة، اما الامكان فلا يكون الا ذاتياً و لا معنى للامكان بالغير اصلًا كما يظهر بأدنى تأمل. ثمّ من اخص لوازم الوجود و مزاياه القدم و استحالة ان يتطرق اليه العدم. و من اخص لوازم الامكان الحدوث أي كونه مسبوقاً بالعدم. يظهر من التأمل مما قدمناه من لوازم الواجب الذاتي أي واجب الوجود و استحالة اجتماع وجوبه الذاتي مع وجوبه الغيري لأن الواجب الغيري يمكن ان يرتفع بارتفاع الغيري، و الواجب الذاتي يستحيل ارتفاعه على كل تقدير. و بنحو آخر الواجب الغيري معلول و الواجب الذاتي لا علة له. و كون الشيء معلولًا و غير معلول تناقض. و وجود الواجب الغيري زائد على ذاته. و الواجب الذاتي وجوده عين ذاته و هو بسيط لا تركيب فيه اصلًا و الا لكان ممكناً لاحتياجه الى الآخر، و الواجب الغيري مركب من الماهية و الوجود. و الماهية يمكن ان تتعدد بتعدد افرادها، و الواجب الذاتي يستحيل تعدده لأنه لا ماهية له و لو كان له ماهية لكان ممكناً و قد فرضناه واجباً بالذات و هذا خلف. و من كل هذا ظهر لك ان الممكن تتساوى نسبة الوجود و العدم اليه و ليس احدهما اولى من الآخر بل هما بالنسبة اليه مثل كفتي ميزان و لو كان احدهما اولى به من الآخر خرج من معنى الإمكان الذاتي و قد فرضناه ممكناً. و من جهة تساوي نسبة الطرفين اليه كان محتاجاً في وجوده الى المؤثر أي العلة و يستحيل الترجيح بلا مرجح فوجوده يستند الى وجود علته و عدمه لعدم علة وجوده. و علة احتياجه الى العلة هو امكانه لا حدوثه [1] و لذا يحتاج الممكن
[1] يقصد في هذه العبارة و ما بعدها ان الموجود بعد ان يحدث يبقى ممكناً و لا يكتسب صفة لوجوب بعد حدوثه، و يحتاج الى العلة لبقائه بعد حدوثه كما احتاجها قبل حدوثه، أي انه لا بد ان يتغير او يزول بعد حدوثه طال امد بقائه ام قصر أي يبقى ممكناً.