فأمر «المفتي» ببيعه، فلما جاءوا بثمنه امتلأت حجرته من روبيات كثيرة، فجعل يوزّعها بين الفقراء و المساكين، أنفقها من أولها الى آخرها، فقام عنها و هو فارغ اليدين.
فلما دخل بيته لزمته أزواجه، و قلن: أين سهمنا من هذا المال الكثير؟
قال: انه كان حق للأرامل و الأيتام، و ان كنتن تردن منه شيئا فادعون علىّ لكي أموت، فتصرن مثلهن، فتأخذن مثل ما أخذن».
و قالت: «انه خرج من الدنيا و لم يورث دينارا و لا درهما سوى مقدار من الكتب، و رغم أنه كان مرجعا كبيرا للعباد، و قاضيا عظيما في البلاد، لم يضع لبنا على لبن، و لا ترك بيتا للسكن، و قضى أيامه بالعسر و المحن، مع أنه كان يأتيه المال وفيرا، لكنه كان ينفقه في سبيل اللّه كثيرا، و لم يبق له و لعياله الا نقيرا، حتى أنّ الآنية التي كنا نصبّ الماء منها في فيه آن وفاته، كانت من الخزف، و لم يأخذه على هذه الحالة أى أسف، بل كان يتخذها له عظيم الشرف».
ولاؤه لآل البيت (عليهم السلام)
لا يخفى ان الانسان اذا بلغ من العلم و العرفان مكانا ساميا، و اختار لنفسه من التقوى أيضا مقاما ناميا، يكون بالنتيجة في منزل ولاء أهل البيت الطاهرين (عليهم السلام) جوهرا صافيا، و درّا غاليا.
و قد ظهر مما سطر ان (المفتي عباس) كان سبّاقا في مضمار العلم و العمل، بما يضرب به المثل، فارتقى بالولاء الخالص الى قمّة الجبل، و علا بمودة لآل ذروة القلل، فكان يصرف أوقاته طول الليل و النهار، في مدح مواليه الأبرار الأطهار، أو قدح أعدائهم الأشرار، كما هو ظاهر من كثير من كلماته العالية، و تصنيفاته الغالية، نحو: «روائح القرآن» و «الجواهر العبقرية» و «الخطاب الفاصل» و غير ذلك، و سيأتي ذكرها.