نعم، هنا بحث آخر: و هو أنّ التحديد بالأشبار أو الوزن- على المشهور و غيره- هل هو على التحقيق أو التقريب، فمتى نقص منه قليل لا يقدح في كونه كرّاً؟ الظاهر الأوّل (1).
ثمّ إنّه لو كان هناك ما اختبر بالوزن فبلغ المقدار المعلوم و لكنّه بالمساحة لا يبلغ و بالعكس، فهل تجري عليه أحكام الكرّية أو لا؟ و الظاهر أنّ المساحة على المشهور تزيد على الوزن في المشهور فما معنى هذا التقدير؟ و ما يصنع بالزيادة؟ على الاستحباب أو غيره؟ (2).
و الظاهر أنّه مبني تقديره بهما على التقريب لا على التحقيق، و إن كان بعد تقدير التقريب بذلك صار تحقيقاً لا ينقص منه شيء، فيكون تحقيقاً في تقريب. فلا يقدح هذا التفاوت بينهما [بين المساحة و الوزن]. و حينئذٍ يكون عدمهما علامة على عدم الكرّ [ية]، كما أنّ وجود أحدهما دليل عليها، و أنّ خاصية الوزن لما نقص عنه بالوزن، و المساحة للمساحة، لا المساحة للوزن، و لا العكس (3)، و يكفي في تحقّق الكرّ وجود أحدهما (4).
(1) لتعليق الحكم فيه على هذا المقدار، فلا تسامح فيه.
و دعوى احتمال الصدق مع النقصان، يدفعه أنّه من المسامحات العرفية لا من الحقائق.
لا يقال: إنّ هذا التقريب ربّما يكون وجه جمع بين رواية أبي بصير التي هي دليل المشهور، و بين صحيحة اسماعيل بن جابر.
لأنّا نقول: على تقدير التقريب لا يتسامح في مثل هذا المقدار، فإنّ التفاوت سبعة أشبار إلّا ثمن.
و مثل الاحتمال المتقدّم سابقاً احتمال القول بأنّ هذا الاختلاف في الأخبار من جهة اختلاف المياه في الصفاء و عدمه، فإذا كان الماء صافياً ليس فيه شيء يكون مقدار الكرّ سبعة و عشرين، بخلاف غيره فيقدّر بالتقديرين الآخرين؛ للاختلاف شدّة و ضعفاً.
و أنت خبير أنّ ذلك كلّه تصرّف من غير إذن المالك.
(2) و التحقيق في المقام أن يقال: قد علمت أنّ الكرّ مكيال معروف، إلّا أنّه لمّا كان غير موجود في كلّ وقت، أو لأنّه خشي أن يجهل حاله مع احتياج الناس لمعرفة الكرّ؛ لكثرة أسفارهم و عوارضهم، بل هم محتاجون إلى ذلك في الحضر، أراد الشارع ضبطه بالوزن لكونه الأصل و بالمساحة تسهيلًا للخلق.
(3) فيكون مفهوم كلّ من الروايتين [في الوزن و المساحة] معارضاً بالاخرى فيسقطان، فيبقى منطوقهما سالماً.
(4) و بعبارة اخرى: هنا كرّان وزنيّ و مساحيّ، فلا ينافي نقصان أحدهما عن الآخر؛ إذ ما نقص في الوزن و بلغ في المساحة كرّ مساحيّ لا وزنيّ و بالعكس، فإنّ أحدهما غير الآخر، فليس الزيادة محمولة على الاستحباب. لكن قد يشكل بأنّه لا داعي إلى هذا التقدير المختلف بعد علمه [الشارع] بنقص الوزن عن المساحة دائماً، مع القدرة على ضابط بغير ذلك منطبق عليه.
و يدفع: أوّلًا: بأنّ دعوى علم النبيّ و الأئمّة (عليهم السلام) بذلك ممنوعة، و لا غضاضة؛ لأنّ علمهم (عليهم السلام) ليس كعلم الخالق عزّ و جلّ، فقد يكون قدّروه بأذهانهم الشريفة و أجرى اللّٰه الحكم عليه. و ثانياً: بأنّه لا يمكن ضبط مساحة تنطبق على الوزن دائماً أو بالعكس؛ لاختلاف المياه ثقلًا و خفّة دائماً، و من اختبر ذلك وجد ما قلنا، فتارة يزيد الوزن و اخرى بالعكس؛ فقد يكون الشارع أخذ مقداراً جامعاً، و هو هذا التقدير، و اللّٰه أعلم بحقيقة الحال.