موكب السبايا الكريمات، عرض رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، يسقن إلى الكوفة، إلى بيت الإمارة، الذي كان يسكنه الإمام علي و هو أمير للمؤمنين، و عنوان للحكم الإسلامي كما ينبغي. المسكن الذي شهد زينب عزيزة دارسة للحكمة على يد النموذج الإسلامي الفذّ، الذي ربّاه و نشّأه الرسول المفدّى بخلق القرآن، و مثل الإسلام: من نافسك في دينك فنافسه، و من نافسك في دنياك فألقها في وجهه!
يجلس مكان الإمام علي بن أبي طالب- الذي لا يخشى في اللّه لومة لائم- أنجس أهل الأرض طرّا: عبيد اللّه بن زياد. مفتون جلف، وغد مغرور، لا يرعى في المسلمين إلّا و لا ذمّة، نسي اللّه فأنساه نفسه، خلقه اللّه إنسانا، فجعل نفسه بهيمة لا ترى إلّا شهوتها في يد صاحبها: يزيد بن معاوية، فلا تبلغ إلّا وجهته.
رأس الحسين بين يدي هذا العبيد اللّه بن زياد، جمار نار لم يستشعر سعيرها بعد، بل يرتاح للطمها و العبث بها! و كلمات الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) معلّقة بقلوب السبايا: «إيّاكم و المثلة و لو بالكلب العقور!».
لكن ها هو ذا الكلب العقور يمثّل بابن الرسول (صلّى اللّه عليه و آله)!
من وجوه السبايا يبرز- في لقطات قريبة متعاقبة- وجه زينب بنت علي، أخت الحسين، تخطّت الخمسين من عمرها، و صوت الحسين الأخير ما يزال في أذنها:
«يا أختاه! لا تنسيني في نافلة الليل ... يا أخية: لا يذهبنّ بحلمك الشيطان!»
ثم وجه الرباب بنت امرئ القيس زوجة الحسين، على مشارف الثلاثين، و صوت الحسين في أذنيها: «إنّي أقسم عليك فأبري قسمي: لا تشقّي عليّ جيبا، و لا تخمشي عليّ وجها!»
ثم وجه كالزنبقة المتفتّحة، تخضله الدموع و يرهقه الفزع، و يمنعه الإباء عن الانكسار أو الانهيار، هو وجه الصبية الوضيئة: سكينة بنت الحسين، في ربيعها الثالث عشر، مثلها لا يراها رجل إلّا من محارمها أو زوجها، مثلها يظلّ وجها سرّا،