و أطال في بيان هذا ثم قال: فبان لك أن الفيض من ذاته ينقسم إلى رحمتين:
الرحمة الأولى: إفاضة الوجود على جميع الأكوان حتى خرجت من العدم إلى الوجود.
و الرحمة الثانية: إفاضة فيض الرحمات الإلهية على جميعها من جملة الأرزاق و المنافع و المواهب و المنح، فإنه بذلك يدوم تمتعها بالوجود، قال: فإذا علمت هذا علمت أنه (صلى اللّه عليه و سلّم) عين الرحمة الربانية؛ لأنه رحم جميع الوجود بوجوده (صلى اللّه عليه و سلّم)، و من فيض جوده أيضا رحم جميع الوجود، فلذا قيل فيه: إنه عين الرحمة الربانية (صلى اللّه عليه و سلّم) انتهى المراد منه.
و في جواهر المعاني ما نصه: أول موجود أوجده اللّه من حضرة الغيب هو روح سيدنا (صلى اللّه عليه و سلّم)، ثم نسل اللّه أرواح العالم من روحه (صلى اللّه عليه و سلّم)، و الروح هنا هي الكيفية التي بها مادة الحياة في الأجسام و خلق من روحه (صلى اللّه عليه و سلّم) الأجسام النورانية كالملائكة و من ضاهاهم.
و أما الأجساد الكثيفة الظلمانية، فإنما خلقت من النسبة الثانية من نسبتي روحه (صلى اللّه عليه و سلّم)، فإن لروحه (صلى اللّه عليه و سلّم) نسبتين أفاضهما على الوجود كله، فالنسبة الأولى نسبة النور المحض، و منه خلقت الأرواح كلها و الأجسام النورانية التي لا ظلام فيها.
النسبة الثانية نسبة الظلام، و منها خلق اللّه الأجسام الظلمانية كالشياطين و الجحيم و سائر دركاتها، فهذه نسبة العالم كله إلى (صلى اللّه عليه و سلّم) انتهى.
فإذا عرفت هذا فاعلم أن الظل موجود بلا ريب في الحسّ تابع في الوجود للشخص، لكن لا يظهر إلا إذا كان ثمة من يظهر فيه، و كذا محل ظهور هذا الظل لا يظهر إلا به، و ذلك لأن النور المحض لا يدرك ما لم يمتزج بظلمة ما، و كذا الظلمة الصرفة لا بدّ لها في الإدراك من النور.
و الأرواح المودعة في ذوات الموجودات، هي لطائف اختص كل موجود منها بلطيفة، و هي السر الذي بين الحق و العبد لا يطّلع عليه ملك مقرب، و لا نبيّ مرسل؛ لأنه من أمر اللّه، و أمر اللّه مجهول.
و قد قال اللّه تعالى أمرا إلى رسوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85].
و على التقدير لا يرى و لا يشهد ذوقا و وجدانا لطائف الأرواح أحد من أهل العقول