فالعبد بعد نفي كل مرتبة و وجود و حيثيّة عن نفسه، يصير عين التحقّق بالواقعيّة و النور الفائض عن المبدء الفيّاض، و بالتبع يتوسّع نطاق وجوده بسعة معرفته و تحقّقه بذلك النور.
و لعلّ إلى ذلك الحقيقة يشير ما جاء في الرواية من أنّ المؤمن إذا أدخل في قبره أتاه ملكان يسألانه عن ربّه و دينه و نبيّه ثمّ يفسحان له في قبره مدّ بصره. [1]
كيف التحقّق بالعبودية؟
من الواضح أنّ الوصول إلى هذه الدرجة الرفيعة لا يمكن لأحد إلا بالجهد الجهيد، و لا يعرف الطريق إليها إلا بالهداية من اللّه و تعريفه و التوفيق منه تعالى للسلوك إليها، و الطريق الذي أظهره اللّه تعالى هو الشرائع المنزلة، التي تصدّى الأنبياء لتبيينها للناس، و أرسل اللّه لذلك الرسل و أوحى إليهم و أنزل الكتاب و فصّل فيها القول. و لو لم يعرّف اللّه الطريق إلى ذلك لم يكد يعرف أحد ذلك الطريق القويم و الصراط المستقيم.
ثم إنّ تلك الأحكام المقرّرة لم تكن تنفع لو لا أنّها مقرّرة على سياق الواقع الموجود، و منتظمة على مدارج العالم العيني و سننه الثابتة التي أقرّها اللّه تعالى، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّٰهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّٰهِ تَحْوِيلًا [35/ 43].
و للإنسان بعد تصديق ذلك آخذا من إعلام الوحي أن يتدبّر و يجتهد لفهم أسرار تلك الأحكام و كيفيّة تطابقه على السنن الثابتة المقرّرة ليكون في سلوك الطريق على بصيرة و شوق، كما ترى العارف بكيفيّة تأثير الدواء يشربه باطمئنان و شوق إلى الصحّة و يصبر على مرارته أكثر و أشدّ من غير العارف الذي يشرب الدواء تقليدا و اعتمادا لوصف الطبيب له فقط.
و مبدء الاعتناء بشرح أسرار الأحكام على هذا السياق هو الكتاب الكريم أولا، ثمّ
[1] راجع الكافي: 3/ 232، كتاب الجنائز، باب أن الميت يمثل له ولده و عمله قبل موته، ح 1.