فنادى في الناس فخرج إلى المسجد فرقى المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه و صلى على النبي صلّى اللّه عليه و آله ثم قال: «أيها الناس إنه انتهى إليّ أن معاوية بلغه ما نريده من حربه فبرز بجمعه لذلك و أعدّ له فما أنتم قائلون؟ و ما أنتم صانعون؟»
فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين الرأي في ذلك كذا، و قام آخر فقال كلاما غير ذلك، و قام آخر و آخر، حتى قام خلق كثير و اعتكر الكلام و كثر الرأي و اختلف القول، و نزل علي عليه السّلام و هو يقول: «إنّا للّه و إنّا إليه راجعون أفلتني ابن آكلة الأكباد، و في طاعة الجند عون للوالي و صلاح للحال».
و من ذلك: أن عليا عليه السّلام لم يكن يداري أحدا في الحق، و لا يرخّص له في الحق، و لا يغضّ له عن واجب يجب عليه، و لا يرخّص له في شيء من الباطل يأتيه، و لا يؤثر أحدا على أحد و لا يفضّله عليه، و عزل عمّال عثمان و انتزع منهم الأموال و ردّ قطائعه و ما استأثر به، و قسم بالسوية، و عدل بين الناس، و كان ذلك سبب نكث من نكث عليه و محاربة أصحاب الجمل إيّاه، و قعود من قعد عن نصرته، و تخلف عن الخروج معه في حروبه، و الحق ثقيل إلّا على من خفّفه اللّه عليه.
و كان علي عليه السّلام إذا نقم على أحد شيئا لم يداهنه و كاشفه فيه و عنّفه عليه و أغلظ القول له، حتى أن الحسن عليه السّلام كان إذا سمع ذلك منه لمن يخاف أن يؤثر فيه من وجوه الناس و من رؤساء العشائر، جلس له حتى يخرج من عنده فيأخذ بيده و يدخله إليه و يخلو به و يتلطف له، ليسل سخيمته و يذهب ما في نفسه ممّا أسمعه عليّ فيه، إيثارا لأمر اللّه و قياما بحقه و تركا لابتغاء النصر إلّا من حيث أمر اللّه به، إذ هو أعلم تبارك و تعالى بخلقه و ما يصلحهم من أمره.
و كان معاوية على خلاف ذلك، يسترضي من سخط عليه، و يبذل الدنيا لمن سأل منه، و دينه لمن سامه إياه، و يغضي على الباطل لأتباعه، و يداهن في الحق لأشياعه، و يحلم له إذا نالوا منه، فمال ميلة من آثر الدنيا و قصد قصده، و رفض الآخرة و أطرحها، و نزع إليه من رؤساء القبائل و وجوه العشائر و رجال العرب من مصر و اليمن