استدعى عبد الملك بن مروان يوماً ابن عيينة وقال له :
أُريد أنْ أولِّيك مصر وأعهد إليك بإدارة أُمورها .
وكان ابن عينية عارفاً بما يَحفُّ بهذه التولية مِن أخطار ، ويُدرك أنَّ قَبولها مِن دون أنْ يتعرَّض لخطر التلوُّث بظلم أو جور غير مُمكن.
فقال لعبد الملك : يا أمير المؤمنين ، إنَّني قد اعتزلت ولا قدرة لي على القيام بما تعهده إليَّ .
فغضب عبد الملك وقال مُحتدَّاً : إنَّها ولاية يبذل الآخرون الأرواح في طلبها ، ويتسبَّبون لها الأسباب ، فأعرضها عليك مِن دون طلب منك فترفضها !
فقال لعبد الملك : يا أمير المؤمنين ، أتأذن لي بكلمة ؟
فقال : قُلْ .
قال : جاء في القرآن الكريم : (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب :) ، فالله تعالى لم يغضب عندما أبين أنْ يحملنها ، ولكنَّك غضبت إذ امتنعتُ عن قبول ولاية مصر ؟
فزال غضب عبد الملك وأكرمه .
إنَّ العقل النَّيِّر والضمير اليقظ وكرامة النفس والوجدان الواعي ، كلَّها توجِب على الإنسان أنْ يتدبَّر أعماله ، وأنْ لا يحيد عن طرق الحَقِّ والفضيلة ، وأنْ لا يقرب الأعمال غير الإنسانيَّة التي يأباها الضمير ، وأن لا يلوِّث نفسه بالفساد والخبث ، وأنْ لا يدوس على الكرامة الإنسانيَّة في سبيل الوصول إلى الدنيا عن طريق غير مشروع[1] .