وَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِمَامَةِ بِعَهْدِ مَنْ قَبْلَهُ فَهُوَ مِمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى صِحَّتِهِ لِأَمْرَيْنِ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمَا وَلَمْ يَتَنَاكَرُوهُمَا أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَهِدَ بِهَا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَثْبَتَ الْمُسْلِمُونَ إمَامَتَهُ بِعَهْدِهِ .وَالثَّانِي : أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَهِدَ بِهَا إلَى أَهْلِ الشُّورَى فَقَبِلَتْ الْجَمَاعَةُ دُخُولَهُمْ فِيهَا وَهُمْ أَعْيَانُ الْعَصْرِ اعْتِقَادًا لِصِحَّةِ الْعَهْدِ بِهَا وَخَرَجَ بَاقِي الصَّحَابَةِ مِنْهَا ، وَقَالَ عَلِيٌّ لِلْعَبَّاسِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا حِينَ عَاتَبَهُ عَلَى الدُّخُولِ فِي الشُّورَى كَانَ أَمْرًا عَظِيمًا مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ لَمْ أَرَ لِنَفْسِي الْخُرُوجَ مِنْهُ فَصَارَ الْعَهْدُ بِهَا إجْمَاعًا فِي انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُجْهِدَ رَأْيَهُ فِي الْأَحَقِّ بِهَا وَالْأَقْوَمِ بِشُرُوطِهَا ، فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي وَاحِدٍ نَظَرَ فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ وَبِتَفْوِيضِ الْعَهْدِ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْ فِيهِ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ ظُهُورُ الرِّضَا مِنْهُمْ شَرْطًا فِي انْعِقَادِ بَيْعَتِهِ أَوْ لَا ؟ فَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إلَى أَنَّ رِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ لِبَيْعَتِهِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهَا لِلْأُمَّةِ ؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ فَلَمْ تَلْزَمْهُمْ إلَّا بِرِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمْ .وَالصَّحِيحُ أَنَّ بَيْعَتَهُ مُنْعَقِدَةٌ وَأَنَّ الرِّضَا بِهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ؛ لِأَنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَى رِضَا الصَّحَابَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ أَحَقُّ بِهَا فَكَانَ اخْتِيَارُهُ فِيهَا أَمْضَى ، وَقَوْلُهُ فِيهَا أَنْفَذَ ؛ وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْعَهْدِ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ انْفِرَادِهِ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ .أَحَدُهَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَلَدٍ وَلَا لِوَالِدٍ حَتَّى يُشَاوِرَ فِيهِ أَهْلَ الِاخْتِيَارِ فَيَرَوْنَهُ أَهْلًا لَهَا فَيَصِحُّ مِنْهُ حِينَئِذٍ عَقْدُ الْبَيْعَةِ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَزْكِيَةٌ لَهُ تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ ؛ وَتَقْلِيدُهُ عَلَى الْأُمَّةِ يَجْرِي مَجْرَى الْحُكْمِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِوَالِدٍ وَلَا لِوَلَدٍ وَلَا يَحْكُمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتُّهْمَةِ الْعَائِدَةِ إلَيْهِ بِمَا جُبِلَ مِنْ الْمَيْلِ إلَيْهِ .وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِهَا لِوَلَدٍ وَوَالِدٍ لِأَنَّهُ أَمِيرُ الْأُمَّةِ نَافِذُ الْأَمْرِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ فَغَلَبَ حُكْمُ الْمَنْصِبِ عَلَى حُكْمِ النَّسَبِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِلتُّهْمَةِ طَرِيقًا عَلَى أَمَانَتِهِ وَلَا سَبِيلًا إلَى مُعَارَضَتِهِ وَصَارَ فِيهَا كَعَهْدِهِ بِهَا إلَى غَيْرِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ ، وَهَلْ يَكُونُ رِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَهْدِ مُعْتَبَرًا فِي لُزُومِهِ لِلْأُمَّةِ أَوْ لَا ؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ .وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَالِدِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا لِوَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ الطَّبْعَ يَبْعَثُ عَلَى مُمَايَلَةِ الْوَلَدِ أَكْثَرُ مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى مُمَايَلَةِ الْوَالِدِ وَلِذَلِكَ كَانَ كُلُّ مَا يَقْتَنِيهِ فِي الْأَغْلَبِ مَذْخُورًا لِوَلَدِهِ دُونَ وَالِدِهِ ؛ فَأَمَّا عَقْدُهَا لِأَخِيهِ وَمَنْ قَارَبَهُ مِنْ عَصَبَتِهِ وَمُنَاسِبِيهِ فَكَعَقْدِهَا لِلْبُعَدَاءِ الْأَجَانِبِ فِي جَوَازِ تَفَرُّدِهِ بِهَا .