لنا قصة جحا الشهيرة: حين كان جالسًا فوق غصن شجرة وينشر أصله.
فقال له عابر سبيل: إنك ستقع.
فقال مستهزئًا: من أين عرفت؟. هل أنت عالم غيب؟.
ولكنه سرعان ما سقط على الأرض، وتهشمت أعضاؤه. فتعقب الرجل وقال: حقًّا أنت نبي.
نحن نضحك من هذا الكلام لأنه مغرق في السذاجة. ولكن ماذا لو قالت طائفة من المنتمين إلى الفلسفة بهذا القول منكرين مصدرًا للمعرفة لا يوزايه مصدر آخر أبدًا. قالوا: إنك لا تستطيع أن تعرف (كل رجل يموت) لأنك لم تعلم إلَّا بموت فريق من الناس، ولعل الفريق الآخر لا يموتون!! وهكذا في سائر الحقائق.
إن الطفرة العلمية التي لم نستطع نحن البشر أن نعرف عنها شيئًا كثيرًا تُشكِّل أقوى الأدلة على وجود عقل يكشف لنا أبعاد الحقائق، وإلَّا فما الذي يدعونا إلى القول بأن كل إنسان يموت، مع أننا لم نشاهد إلَّا بعض الأموات .. يقول البروفيسور (ماندير): «إن الحقائق التي نتعرف عليها مباشرة تسمى (الحقائق المحسوسةReceived Facts) ، بيد أن الحقائق التي توصَّلنا إلى معرفتها لا تنحصر في الحقائق المحسوسة. فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة، ولكننا عثرنا عليها على كل حال. ووسيلتنا في هذا السبيل هي الاستنباط. فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه (بالحقائق المستنبطةInferred Facts) والأهم هنا أن نفهم أن لا فرق بين الحقيقتين، وإنما الفرق هو في التسمية من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة، وعلى الثانية بالواسطة. والحقيقة دائمًا هي الحقيقة سواء عرفناها بالملاحظة أو بالاستنباط»[1].
والعقل هو الذي يميز بين الطفرة العلمية (الاستنباط) وعملية (انتزاع النفس) أو الخيال، ووسيلته إلى ذلك تجنب أية رغبة في التسرع أو في ترجيح جانب على جانب آخر. بل لابد أن يدع الإنسان نفسه مُسلِّمًا بنتيجة تجاربه، تقوده كيف شاءت لا كيف يشاء هو.