ثمّ إنّه (عليه السّلام) ودّع عياله
ثانياً ، وأمرهم بالصبر ولبس الأزر وقال : «استعدّوا للبلاء ، واعلموا أنّ الله
تعالى حاميكم وحافظكم ، وسينجيكم من شرّ الأعداء ، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذِّب
عدوّكم بأنواع العذاب ، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النّعم والكرامة ، فلا
تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم» [٢].
حقاً لو قيل بأنّ هذا الموقف من أعظم ما
لا قاه سيّد الشهداء في هذا اليوم [٣]
؛ فإنّ عقائل النبوّة تشاهد عماد أخبيتها وسياج صونها وحمى عزّها ومعقد شرفها
مؤذناً بفراق لا رجوع بعده ، فلا يدرين بمَن يعتصمن من عادية الأعداء ، وبمَن
يعمل إلاّ بما تلقّاه
من جدّه الذي لا ينطق عن الهوى ، وكلّ قضايا الطفّ محدودة الظرف والمكان ؛ لأسرار
ومصالح لا يعلمها إلاّ ربّ العالمين تعالى شأنه.
وهناك شيء آخر لاحظه سيّد الشهداء وكانت
العرب تتفانى دونه ، وهو حماية الحرم بأنفس الذخائر ، وأبو عبد الله سيّد العرب
وابن سيّدها فلا تفوته هذه الخصلة التي يستهلك دونها النّفس والنّفيس. ولمّا ناداه
الرجل هتكت الحرم لَم يشرب الماء ؛ إعلاماً للجمع بما يحمله من الغيرة على حرمه ،
ولَو لَم يبال بالنداء لتيقّن النّاس فقدانه الحميّة العربيّة ولا يقدم عليه أبي
الضيم حتّى لو علم بكذب النّداء ، وفعل سيّد الإباة من عدم شرب الماء ولَو في آن
يسير هو غاية ما يمدح به الرجل.
[١] من قصيدة لآية
الله الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء رحمه الله.
[٢] جلا العيون
للمجلسي بالفارسيّة ، وهنا شيء لَم يتنبّه له أحد وهي إرادة بيان أمرَين ؛ عدم
القتل ، وعدم السّلب. فإنّ تعليل لبس الأزر بالحماية والمحافظة مع أنّ أحدهما كافٍ
في التعريف بأنّ اليد العادية لا تمدّ إليهم ، يكون الإتيان بهما مع بعد غرض بلوغه
أعلى مراتب البلاغة دليل على أنّ المقصود من أحدهما بيان عدم السّلب ، ومن الثاني
عدم القتل.
[٣] هذا هو الظاهر من
وصيّة الصدّيقة الزهراء (عليها السّلام) للمجلسي أعلى الله مقامه بقراءته مصيبة
ولدها عند الوداع. كما ذكره النوري في دار السّلام المجلّد الأول.