وقبل أنْ يخرج قام خطيباً فقال : «الحمد
لله وما شاء الله ولا قوّة إلاّ بالله وصلّى الله على رسوله ، خُطَّ الموت على ولد
آدم مَخَطَّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى
يوسف ، وخُيِّر لي مصرعٌ أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلاة بين
النّواويس وكربلاء ، فيملأن منّي أكراشاً جوفا وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خُطَّ
بالقلم ، رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفّينا اُجور الصابرين. لنْ
تشذ عن رسول الله لحمته ، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس ، تقرّ بهم عينه وينجز بهم
وعده. ألا مَن كان فينا باذلاً مهجته موطِّناً على لقاء الله نفسَه فليرحل معنا ، فإنّي
راحل مصبحاً إنْ شاء الله تعالى» [١].
وكان خروجه (ع) من مكّة لثمان مضَين من
ذي الحِجَّة ، ومعه أهل بيته ومواليه وشيعته من أهل الحجاز والبصرة والكوفة الذين
انضمّوا إليه أيام إقامته بمكّة وأعطى كلّ واحد منهم عشرة دنانير وجملاً يحمل عليه
زاده [٢].
محاولات لصرفه عن
السّفر
وسأله جماعة من أهل بيته وغيرهم التريّث
عن هذا السّفر حتّى يستبين له حال النّاس ؛ خوفاً من غدر الكوفيّين وانقلاب الأمر
عليه ، ولكنّ (أبي الضيم) لمْ تسعه المصارحة بما عنده من العلم بمصير أمره لكلّ من
قابله ؛ لأنّ الحقائق كما هي لا تفاض لأيّ متطلب بعد تفاوت المراتب واختلاف
الأوعية سعةً وضيقاً ، فكان (عليه السّلام) يُجيب كلّ واحدٍ بما يسعه ظرفه
وتتحمّله معرفته.
فيقول لابن الزبير : «إنّ أبي حدّثني
أنّ بمكّة كبشاً به تستحلّ حرمتها ، فما اُحبّ أنْ أكون ذلك الكبش ، ولَئن اُقتل
خارجاً منها بشبر أحبّ إليَّ من أنْ اُقتل فيها [٣]
، وأيمَ الله لَو كنتُ في ثقب هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيَّ
حاجتهم ، والله ليعتدنَّ عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت».