و طويلته [1] فلبسهما، و ركب إلى عيسى بن موسى فقال له: إنّ لي جارا
أخذه عسسك البارحة فحبس، و ما علمت منه إلا خيرا. فقال عيسى: سلّموا إلى أبي حنيفة
كلّ من أخذه العسس البارحة، فأطلقوا جميعا. فلمّا خرج الفتى دعا به أبو حنيفة و
قال له سرّا: أ لست كنت تغنّي يا فتى كلّ ليلة:
أضاعوني و أيّ فتى أضاعوا
فهل أضعناك؟
قال: لا و اللّه أيّها القاضي، و لكن أحسنت و تكرّمت، أحسن اللّه جزاءك. قال: فعد
إلى ما كنت تغنّيه، فإنّي كنت آنس به، و لم أر به بأسا. قال: أفعل.
عبد اللّه بن
علي كان كثير التمثل في حبسه بقول العرجيّ أضاعوني البيت
و قال إسحاق في
خبره: لمّا حبس المنصور عبد اللّه بن عليّ، كان يكثر التّمثّل بقول العرجيّ:
أضاعوني و أيّ فتى أضاعوا
ليوم كريهة و سداد ثغر
/ فبلغ ذلك المنصور، فقال: هو أضاع نفسه بسوء
فعله، فكانت أنفسنا عندنا آثر من نفسه.
حكاية
الأصمعيّ من كناس بالبصرة كان يتمثل بهذا البيت
قال إسحاق: و
قال الأصمعيّ: مررت بكنّاس بالبصرة يكنس كنيفا و يغنّي:
أضاعوني و أيّ فتى أضاعوا
ليوم كريهة و سداد ثغر
فقلت له: أمّا
سداد الكنيف فأنت مليء به [2]. و أما الثغر فلا علم لي بك كيف أنت فيه- و كنت
حديث السنّ فأردت العبث به- فأعرض عنّي مليا، ثم أقبل عليّ فأنشد متمثّلا:
و أكرم نفسي إنّني إن أهنتها
و حقّك لم تكرم على أحد بعدي
قال فقلت له: و
اللّه ما يكون من الهوان شيء أكثر مما بذلتها له، فبأيّ شيء أكرمتها؟ فقال: بلى!
و اللّه إنّ من الهوان لشرّا مما أنا فيه. فقلت: و ما هو؟. فقال: الحاجة إليك و
إلى أمثالك من الناس. فانصرفت عنه أخزى الناس. قال محمد بن مزيد: فحدّثني حمّاد
قال قال لي أبي: اختصر الأصمعي- فيما أرى- الجواب، و ستر أقبحه على نفسه، و إلا
فكنّاس كنيف قائم يكنسه و يعبث به هذا العبث، فيرضى بهذا الجواب الذي لا يجيب
بمثله الأحنف بن قيس لو كانت المخاطبة له!.
اقتصاص
الوليد بن يزيد من محمد بن هشام و أخيه إبراهيم بن هشام
و قال إسحاق في
خبره: كان الوليد بن يزيد مضطغنا على محمد بن هشام لأشياء [3] كانت تبلغه عنه في
حياة هشام، فلمّا ولي الخلافة قبض عليه و على أخيه إبراهيم بن هشام و أشخصا إليه
إلى الشام، ثم دعا بالسّياط. فقال له
-
ظهري، و قد صبغت بالسواد ثيابي؛ فضحك منه و أعفاه من ذلك و قال له: إياك أن يسمع
هذا منك أحد.
[1] الطويلة:
القلنسوة العالية المدعومة بعيدان، كما يستفاد من عبارة «الأغاني» المتقدّمة. و
يظهر من البيهقي في المحاسن و المساوي طبع ليپزج ص 213 أنها كانت لباس القضاة.