عجب وقطعت كل سبب ، وقد
رأيتم حاجة عمر إليه ، وإستشارته إياه ، وتقويمه لعثمان وتغييره عليه ، ولو
لم يكن للفضيلة من بين أقرانه مستحقاً ، وبها مخصوصاً ما خصّه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالدعوة المستجابة ، ولما خصه بعلم الكتاب والسنة ، وهما أرفع العلم ،
وأشرف الفكر ، ويدّلك على تقديمه للغاية ، وايثاره للتعلم والاستبانة
، قوله حين قيل له في حداثته وقبل البلوغ في سنه : ما الذي آتاك هذا العلم
وهذا البيان والفهم ؟ قال : قلب عقول ولسان سؤول » [١].
والخلاصة ، لقد كان مثالاً لمحاسن
الأخلاق وجميل الصفات ، مع ما له من مزايا الفضل الأخرى من نفاذ بصيرة قلّ
مثيلها حتى شهد باعجاب مربيه ومعلّمه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام
حيث قال : (لله در ابن عباس ان كان لينظر إلى الغيب من ستر رقيق) [٢]
، وقد رويت كلمة الإمام هذه فيه بألفاظ متفاوتة أحسبها من تساهل نقل الرواة
بعد تسالمهم على المعنى فقد رواها ابن عبد ربّه مرة أخرى في كتابه بلفظ :
(لله بلاء ابن عباس) [٣]
، ورواها الديريني في علم القلوب : (كأنه ينظر إلى الغيب من ستور رقيقة) [٤]
، ورواها الكتاني نقلاً عن الدينوري : (لينظر الي الغيب خلف ستر رقيق لعقله وفطانته) [٥].
ومهما يكن فليس ذلك بضائر بعد الدلالة
فيها على جودة الرأي ونفاذ البصيرة وكثرة الإصابة فكان كما قال الشاعر :
بصير بأعقاب الاُمور برأيه
كأن له في اليوم عيناً على غد
[١] رسائل الجاحظ ١ /
٣٠٠ تح عبد السلام محمّد هارون.