عاد السلام و الأمن، و هدأت الجزيرة العربية بعد الحروب و البعثات التي استغرقت أكثر من سنة كاملة، إلا أن اليهود- الذين كانوا قد ذاقوا ألوانا من الذلة و الهوان نتيجة غدرهم و خيانتهم و مؤامراتهم و دسائسهم- لم يفيقوا من غيهم، و لم يستكينوا و لم يتعظوا بما أصابهم نتيجة الغدر و التامر، فبعد نفيهم إلى خيبر ظلوا ينتظرون ما يحل بالمسلمين نتيجة المناوشات التي كانت قائمة بين المسلمين و الوثنيين. و لما تحول مجرى الأيام لصالح المسلمين، و تمخضت الليالي و الأيام عن بسط نفوذهم، و توطد سلطانهم، تحرق هؤلاء اليهود أي تحرق.
و شرعوا في التأمر من جديد على المسلمين، و أخذوا يعدون العدة، لتهيئة ضربة إلى المسلمين تكون قاتلة لا حياة بعدها. و لما لم يكونوا يجدون في أنفسهم جرأة على مناورة المسلمين مباشرة، خططوا لهذا الغرض خطة رهيبة.
خرج عشرون رجلا من زعماء اليهود و سادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول (صلّى اللّه عليه و سلم)، و يوالونهم عليه، و وعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، و قريش قد أخلفت وعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذ سمعتها و البر بكلمتها.
ثم خرج هذا الوفد إلى غطفان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشا، فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك، فاستجاب له من استجاب، و هكذا نجح ساسة اليهود و قادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبيّ (صلّى اللّه عليه و سلم) و دعوته و المسلمين.
و فعلا خرجت من الجنوب قريش و كنانة و حلفاؤهم من أهل تهامة- و قائدهم أبو سفيان- في أربعة آلاف، و وافاهم بنو سليم بمر الظهران، و خرجت من الشرق قبائل غطفان: بنو فزارة، يقودهم عيينة بن حصن، و بنو مرة، يقودهم الحارث بن عوف، و بنو أشجع يقودهم مسعر بن رخيلة كما خرجت بنو أسد و غيرها.