و قال لأصحابه: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر و تشربون فيه اللبن، و إن عامكم هذا عام جدب، و إني راجع فارجعوا.
و يبدو أن الخوف و الهيبة كانت مستولية على مشاعر الجيش أيضا، فقد رجع الناس و لم يبدوا أي مصادمة لهذا الرأي و أي إصرار و إلحاح على مواصلة السير للقاء المسلمين.
و أما المسلمون فأقاموا ببدر ثمانية أيام ينتظرون العدو، و باعوا ما معهم من التجارة فربحوا بدرهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة و قد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم، و توطدت هيبتهم في النفوس و سادوا على الموقف.
و تعرف هذه الغزوة ببدر الموعد، و بدر الثانية، و بدر الآخرة و بدر الصغرى [1].
غزوة دومة الجندل
عاد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلم) من بدر، و قد ساد المنطقة الأمن و السلام، و اطمأنت دولته، فتفرغ للتوجه إلى أقصى حدود العرب حتى تصير السيطرة للمسلمين على الموقف، و يعترف بذلك الموالون و المعادون.
مكث بعد بدر الصغرى في المدينة ستة أشهر، ثم جاءت إليه الأخبار بأن القبائل حول دومة الجندل- قريبا من الشام- تقطع الطريق هناك، و تنهب ما يمر بها، و أنها قد حشدت جمعا كبيرا تريد أن تهاجم المدينة، فاستعمل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلم) على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، و خرج في ألف من المسلمين لخمس ليال بقين من ربيع الأول سنة 5 ه، و أخذ رجلا من بني عذرة دليلا للطريق يقال له مذكور.
خرج يسير الليل و يكمن النهار، حتى يفاجئ أعداءهم و هم غارون، فلما دنا منهم إذا هم مغربون، فهجم على ماشيتهم و رعائهم، فأصاب من أصاب، و هرب من هرب.
و أما أهل دومة الجندل ففروا في كل وجه، فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحدا. و أقام رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلم) أيام، و بث السرايا و فرق الجيوش، فلم يصب منهم أحدا، ثم رجع إلى المدينة، و وادع في تلك الغزوة عيينة بن حصن. و دومة: بالضم، موضع معروف بمشارف الشام، بينها و بين دمشق خمس ليال، و بعدها من المدينة خمس عشرة ليلة.
[1] نظر لتفصيل هذه الغزوة ابن هشام 2/ 209، 210، زاد المعاد 2/ 112.