من زُبالَةَ لَيلًا، فَاستَقبَلَنا ريحٌ سَوداءُ مُظلِمَةٌ، فَتَقَطَّعَتِ القافِلَةُ، فَتِهتُ في تِلكَ الصَّحاري وَالبَراري، فَانتَهَيتُ إلى وادٍ قَفرٍ، فَلَمّا أن جَنَّنِي اللَّيلُ آوَيتُ إلى شَجَرَةٍ عادِيَةٍ، فَلَمّا أنِ اختَلَطَ الظَّلامُ إذا أنَا بِشابٍّ قَد أقبَلَ، عَلَيهِ أطمارٌ بيضٌ، تَفوحُ مِنهُ رائِحَةُ المِسكِ، فَقُلتُ في نَفسي: هذا وَلِيٌّ مِن أولِياءِ اللَّهِ تَعالى مَتى ما أحَسَّ بِحَرَكَتي خَشيتُ نِفارَهُ، و أن أمنَعَهُ عَن كَثيرٍ مِمّا يُريدُ فِعالَهُ، فَأَخفَيتُ نَفسي مَا استَطَعتُ، فَدَنا إلَى المَوضِعِ، فَتَهَيَّأَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ وَثَبَ قائِماً وهُوَ يَقولُ: «يا مَن أحارَ كُلَّ شَيءٍ مَلَكوتاً، وقَهَرَ كُلَّ شَيءٍ جَبَروتاً، أولِج قَلبي فَرَحَ الإِقبالِ عَلَيكَ، وألحِقني بِمَيدانِ المُطيعينَ لَكَ»، قالَ: ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّلاةِ، فَلَمّا أن رَأَيتُهُ قَد هَدَأَت أعضاؤُهُ، وسَكَنَت حَرَكاتُهُ، قُمتُ إلَى المَوضِعِ الَّذي تَهَيَّأَ مِنهُ لِلصَّلاةِ، فَإِذا بِعَينٍ تُفيضُ بِماءٍ أبيَضَ، فَتَهَيَّأتُ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ قُمتُ خَلفَهُ، فَإِذا أنَا بِمِحرابٍ كَأَ نَّهُ مُثِّلَ في ذلِكَ المَوقِفِ، فَرَأَيتُهُ كُلَّما مَرَّ بِآيَةٍ فيها ذِكرُ الوَعدِ وَالوَعيدِ يُرَدِّدُها بِأَشجانِ الحَنينِ، فَلَمّا أن تَقَشَّعَ الظَّلامُ وَثَبَ قائِماً وهُوَ يَقولُ: «يا مَن قَصَدَهُ الطالِبونَ فَأَصابوهُ مُرشِداً، وأمَّهُ الخائِفونَ فَوَجَدوهُ مُتَفَضِّلًا، ولَجَأَ إلَيهِ العابِدونَ فَوَجَدوهُ نَوّالًا». فَخِفتُ أن يَفوتَني شَخصُهُ، و أن يَخفى عَلَيَّ أثَرُهُ، فَتَعَلَّقتُ بِهِ، فَقُلتُ لَهُ: بِالَّذي أسقَطَ عَنكَ مَلالَ التَّعَبِ، ومَنَحَكَ شِدَّةَ شَوقِ لَذيذِ الرُّعبِ، إلّاألحَقتَني مِنكَ جَناحَ رَحمَةٍ، وكَنَفَ رِقَّةٍ، فَإِنّي ضالٌّ، وبِعَيني كُلَّما صَنَعتَ، وباذُني كُلَّما نَطَقتَ، فَقالَ: «لَو صَدَقَ تَوَكُّلُكَ ماكُنتَ ضالّاً، ولكِنِ اتَّبِعني وَاقفُ أثَري»، فَلَمّا أن صارَ تَحتَ الشَّجَرَةِ أخَذَ بِيَدي، فَتَخَيَّلَ إلَيَّ أنَّ الأَرضَ تُمَدُّ مِن تَحتِ قَدَمي، فَلَمَّا انفَجَرَ عَمودُ الصُّبحِ، قالَ لي: