فلما علم أني علمت بذلك ، ووقفت على
سلوكه في تلك المسائل ، كتب إليّ رقعة طويلة الذيل ، مشحونة بالندم والويل ، يطلب
فيها الرضا ، ويلتمس الإغماض عمّا مضى.
فكتبت اليه في الجواب : جزاك الله خيراً
فيما أهديت إليّ من الثواب ، وثَقّلت به ميزان حسناتي يوم الحساب ، فقد روينا عن
سيد البشر ، والشفيع المشفع في المحشر أنه قال :
( يجاء بالعبد يوم القيامة ، فتوضع
حسناته في كفة ، وسياته في كفة ، فترجح السيئات فتجيء بطاقة فتقع في كفة الحسنات
فترجح بها. فيقول : يارب ماهذه البطاقة؟!! فيقول عزّوجل : هذا ما قيل فيك وأنت منه
بريء ).
فهذا الحديث قد أوجب بمنطوقه عليّ أن
أشكر ما أسديته من النعم إليّ ، فكثّر الله خيرك وأجزل مبرك.
مع أني لو فرض أنّك شافهتني بالسفاهة
والبهتان ، وواجهتني بالوقاحة والعدوان ، ولم تزل مصراً على شناعتك ليلاً ونهاراً
، مقيماً على سوء صناعت كسراً وجهاراً ، ما كنت اُقابلك إلا بالصفح والصفا ، ولا اُعاملك
إلا بالمودة والوفاء ، فإنّ ذلك من أحسن العادات ، وأتم السعادات ، وإن بقيت مدة
الحياة اعز من أن تصرف في غيرتدارك ما فات ، وتتمة هذا العمر القصير لاتسمع مؤاخذة
احد على التقصير [٢].
نعم هذه أخلاق لومزجت بها البحر لعذب
ماؤه طعماً.
وكان ذلك من بواعث تنغيص عيشه ، وتكدير
صفو حياته أحياناً ، وطالما نفّس عن كربه بالعزلة أو بالسياحة والرحلة.