كان لياسر أخٍ ترك بلاد اليمن إلى مكة ،
إما لأداء المناسك ، وأما طلباً للقمة العيش ـ على الأغلب ـ ليقيم بها أوده ،
نظراً للمحنة الإقتصادية التي لفّت بلاد اليمن آنذاك ، ويبدو أنه لم يوضح لإخوته
سبب رحيله ، فكان بحكم المفقود والضائع ، سيما بعد أن طال غيابه ، وانقطعت أخباره
، فرأى ياسر أن يذهب في طلبه ليرجعه إلى منزله في مضارب قومه بني عنس ، فخرج من
اليمن هو وأخوان له ، أحدهما يقال له : الحرث ، والثاني : مالك ، قاصدين مكة علّهم
يجدونه فيها ويحملونه معهم.
لكن مكة أم الدنيا ، يغمر حنانها كل
قادم إليها ، فيجد نفسه مشدوداً نحوها ، غارقاً في حبها. يفارقها مكرهاً غير مختار
إن فارق ، ويقيم بها مفعماً بألوان السعادة ، إن قدر له أن يقيم ، فكان ياسر
واحداً ممن استهوتهم تلك البقعة المباركة وتملك حبها في قلبه ، فآثر البقاء فيها
على الرجوع إلى اليمن ، وفي هذا الحال كان عليه أن يحكم أمره ليتمكن من العيش فيها
بكرامة ، فحالف أحد ساداتها المبرزين ، وهو أبو حذيفة بن المغيرة المخزومي ، وكان
هذا شيخاً كبيراً أكسبته الحياة كثيراً من الخبرة والحنكة والمرونة ، فاستطاع أن
يتغلب على مرارتها وقسوتها بلين الشيوخ ، وعقلية المجربين ، لذلك كان سمحاً ،
سهلاً ، لا يأبه كثيراً بمغريات الحياة وعلائقها.