و يأتى فى مرتبته بعد المحاسبة، نزعة الزهد فى منهج المحاسبى، هو
زاهد بحكم مزاجه المدقق، فقد تورع عن أن يرث عن والده شيئا، و تورع عن أن يأكل
شيئا من عند تلميذه الجنيد لأنه لم يتحقق من مصدره، و مات و هو محتاج إلى درهم، و
بلغ من تطرفه و اختياره للأقسى، فى أول عهده للتصوف أن آثر عدم كسب الحلال، ثم
اعتدلت آراؤه و اتزنت و إن بقيت نزعته الأصلية المتقللة أصيلة فى فكره و سلوكه، و
قد مات يوم مات و هو محتاج إلى دانق.
و كتاب الحارث «المسائل فى الزهد و غيره» محاولة لبسط فلسفته الخاصة
فى الزهد فى ضوء آيات الكتاب و مأثور السنة و سلوك رجال السلف من الصحابة و
التابعين. سئل المحاسبى عن الزهد بالدنيا أفرض أم نفل؟ و ما الفرض و ما النفل؟
فقال: فرض الله على العباد الزهد فى حرامه، و نفلهم الزهد فى حبس حلاله لموضع
الفضل، و أمرهم بالرغبة فيما فيه رغبهم، و بالزهد فيما فيه زهدهم، فإذا كان الرجل
يحسن التمييز بين الفرض و النفل، لم يقدم على الحرام و لم يزهد بالحلال. إلا أن
الله تعالى لم ينفل أن يزهد الإنسان فى حلاله، و لكن نفل أن يزهد فى حبس الحلال عن
إنفاقه فى وجوهه[1].
و أما بواعث الزهد و أسبابه: فخفة المؤونة و الراحة من عظيم الكلفة
لأنه إذا حل بالزهد حط الكريم عنه فى الدنيا مؤونة الراحلة: و استراح من تعب النقلة،
و حلت نفسه بالطمأنينة[2].