و قد استشهد للقول
الثالث بقوله تعالى أَفْتَرى عَلَى
اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ[1] فإنّه يدلّ مع أنّ هناك قسماً ثالثاً غير الصدق و الكذب؛ و
هو الخبر غير المطابق للواقع المطابق للاعتقاد؛ حيث إنّ معنى الآية أنّهم قالوا:
إنّ الرسول إمّا كاذب في دعواه للنبوّة إن كان عالماً بعدم نبوّته، و إمّا مجنون
اعتقد بنبوّته لأجل الجنون. فليس الخبر كذباً إذا لم يطابق الواقع فقط.
فالتحقيق: صحّة هذا
القول؛ لشهادة العرف من العرب و غيرهم بأنّ الكذب و ما يرادفه في سائر الألسنة لا
يطلق إلّا إذا كان الخبر غير مطابق لا للواقع، و لا لاعتقاد المتكلّم.
فلا يقال
للمخبر: إنّه كذب إذا كان خبره مطابقاً للواقع، و لا إذا كان مطابقاً لاعتقاده و
إن خالف الواقع. و كذلك الصدق لا يطلق إذا كان الخبر غير مطابق للواقع، و لا إذا
كان غير مطابق لاعتقاده و إن طابق الواقع.
الكذب في
الإنشاء:
حكى شيخنا
الأنصاري عن بعض الأساطين: أنّ الكذب و إن كان من صفات الخبر إلّا أنّ حكمه يجري
في الإنشاء المنبئ عنه، كمدح المذموم و ذمّ الممدوح و تمنّي المكاره و ترجّي غير
المتوقّع .. إلى آخره، و كالأفعال المفيدة فائدته، كتأوّه السالم لإفادة العلّة، و
تلبّس الغني لباس الفقير لإفادة فقره، و تلبّس الجاهل لباس العلماء لإفادة كونه
منهم، و نصب الرايات و البيارق لإفادة إقامة العزاء مع مخالفتها للواقع، و أمثال
ذلك.
ففي
«الجواهر» قد يقال: إنّه و إن كان من صفات الخبر لكن يجري حكمه في الإنشاء المنبئ
عنه مع قصد الإفادة. و أمّا الكذب في الأفعال فلا يخلو عن إشكال.