هدأت
الأوضاع وانتهت الفتوحات، ولا زالت التجربة المريرة لخلافة عثمان والإمام علي (ع)
والصراع بين المسلمين تُلقي بظلّها على الامّة، وفي غضون ذلك وجد أهل الكتاب
والنحل المختلفة الفرصة مؤاتية لاستعادة مكانتهم في النظام الجديد والتبليغ
لعقائدهم. والأهم من ذلك أن مجيء معاوية وبني امية إلى السلطة مَهّد لإحياء
التراث الجاهلي بأفضل وجه ممكن؛ لأن طبيعتهم البدوية والجاهلية كانت تعيدهم إلى تلك
الأيام فضلًا عن حاجتهم لمثل تلك العودة لفرض سلطتهم ومدِّ سلطانهم على الامّة،
كما أن العرب في تلك الفترة كانت تتعلق بتلك المرحلة إلى حدّ العشق[1].
إشاعة
المذهب الجبري:
أصبحت
الأرضية ممهّدة ومن كل الجوانب لإحياء التراث الجاهلي، ولا سيما في مجال الفكر
الجبري الذي احتلّ موقعاً متقدماً على الصعيد العملي حتى شمل كل المجتمع بمباركة
من السلطة الحاكمة. وهو فكر كان سيحتلّ مكانه في تلك الفترة بلحاظ الظروف السائدة
حتى وإن لم يعمد معاوية وبنو امية إلى تقديم الإسناد والدعم المنظم له، وحينما
أصبح الإسناد ظهيراً للظرف سيطر هذا الفكر بشكل شامل، وارتدى زيّاً دينياً
قرآنياً، وتحركت يد التزوير والتحريف والتفسير والتأويل لترسم من الإسلام والقرآن
صورة منطبقة مع المبدأ الجبري، ولم يكن النقاش يدور حينذاك حول تأييد القرآن لهذا
الفكر أو عدم تأييده، وإنما قيل: إنّه
[1] - حينما سُئل بعض الصحابة عما يدور بينهم في بعض
مجالسهم، أجاب بأنهم ينشدون الشعر، ويسردون قصص الجاهلية. انظر: فجر الإسلام: 95
وفي هذا دلالة على ارتباط مسلمي الصدر الأول العميق بتراثهم الجاهلي، وثمة أمثلة
كثيرة يمكن الاستشهاد بها في هذا المضمار.