فیما حاولوه من التحقیق أولا و الشرح ثانیا. و إنا لندرک أنّه لم یکن یسع أحدا من هؤلاء أن یصنع «للنهج» خیرا ممّا صنع، لأن جمهره المحققین فی أیامهم کانوا إذا وجدوا مخطوطه نشروها علی حالها، و أضافوا إلیها ما وقع إلیهم من الحواشی و الشروح، لا یجشّمون أنفسهم عناء البحث عن النسخ المختلفه، و مقابله بعضها ببعض، ضبطا للنصّ، و تصحیحا للأصل، و اختیارا للأدق الأکمل، و انسجاما مع أمانه العلم و منهجیّه التحقیق.

و إنّ علینا - مع ذلک - أن نکبر ما قدّمه الإمام محمّد عبده من خدمه جلیّ للفکر العربیّ الإسلامی یوم نشر «نهج البلاغه» و شرحه بإیجاز، مهما تکن الهنات التی أخذها علیه غیرنا أو نأخذها نحن الیوم علیه، فله یرتدّ الفضل فی انتشار هذا الکتاب العظیم الذی بات لا یجهله أحد من الأدباء و المتأدبین. و حسب الشیخ محمّد عبده فخرا أن عشرات الطبعات التی نشرت شرقا و غربا ظلّت إلی عهد قریب تستند إلی النصّ الذی أثبته، و تکتفی بالشرح الذی اقتبسه و انتقاه[1].

علی أن «نهج البلاغه» - لنفاسته - جدیر بأکثر ممّا أتیح له حتّی الیوم من التحقیق و التدقیق.

و لقد طلع علینا منذ سنوات قلائل الأستاذ البحاثه المفضال محمّد أبو الفضل إبراهیم بطبعه علمیه ممتازه لشرح ابن أبی الحدید فی عشرین جزءا، رجع فیها إلی نسخ مخطوطه مصوّره عن أصولها المحفوظه فی مکتبه المتحف البریطانی، و مکتبه الفاتیکان، و المکتبه الظاهریه، و بعض المکتبات الأخری العامّه و الخاصّه[2] ، و لم تکن تلک المخطوطات المختلفه کلها کامله، و لکنها بمجموعها کانت کافیه لتقدیم أفضل صوره ممکنه «للنهج» متنا و شرحا.

و إفاضتنا فی الثناء علی هذه الطبعه الأخیره لا ینبغی أن تحول دون تقریرنا للحقیقه التالیه:

و هی أن الغرض الذی رمی إلیه الأستاذ محمّد أبو الفضل إبراهیم هو تحقیق شرح «النهج» و لیس تحقیق «النهج» ذاته. أما الغایه التی نتصدی لها، و التی یؤنس جمیع الأدباء حاجه إلیها، فهی ضبط مجموعه النصوص التی اختارها الشریف الرضی من کلام الإمام ضبطا

[1] نذکر علی سبیل المثال طبعات الشیخ محیی الدین عبد الحمید فی القاهره، و طبعه الأستاذ عبد العزیز سید الأهل فی بیروت. و نضرب هاهنا صفحا عن الطبعات التجاریه التی تصدی بها قوم لما لم یکونوا له أهلا.

[2] انظر ما ذکره محمّد أبو الفضل إبراهیم عن هذه المخطوطات فی مقدّمته (الجزء الأول ابتداء من الصفحه العشرین)، و أضف إلی ذلک ما نبه إلیه فی أجزاء الکتاب المختلفه من أصول جدیده وقعت إلیه أثناء الطبع الذی استغرق نحو خمس سنوات (من سنه 1959 حتّی 1964). و راجع بصوره خاصّه الصفحات الأولی من الأجزاء التالیه (الثانی ، الرابع و الخامس و السابع و الحادی عشر و الخامس عشر و السادس عشر و الثامن عشر و التاسع عشر و العشرین).