responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 29

الآية


وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الْدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ__

سبب النّزول


سأل رجل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن الله سبحانه، أهو قريب ليناجيه بصوت خفي أم بعيد ليدعوه بصوت مرتفع؟ فنزلت الآية(530).

التّفسير


سلاح اسمه الدعاء
بعد أن ذكرت الآيات السابقة مجموعة هامّة من الأحكام الإِسلامية، تناولت هذه الآية موضوع الدعاء باعتباره أحد وسائل الإِرتباط بين العباد والمعبود سبحانه. ومجيء هذه الآية في سياق الحديث عن الصوم، يعطيه مفهوماً جديداً، إذ أن الدعاء والتقرب إلى الله روح كل عبادة.
هذه الآية تخاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ).
إنه أقرب ممّا تتصورون، أقرب منكم إليكم، بل (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريدِ)(531).
ثم تقول الآية: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ).
إذن (فَلْيَسْتَجِيبُوا لي، وَلْيُؤْمِنُوا بِي، لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
ويلفت النظر في الآية، أن الله سبحانه أشار إلى ذاته المقدسة سبع مرات، وأشار إلى عباده سبعاً! مجسداً بذلك غاية لطفه وقربه وإرتباطه بعباده.
روى عبد الله بن سنان عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قال: «الدُّعَاءُ يَرُدُّ الْقَضَاءَ بَعْدَ مَا أُبْرِمَ إِبْرَاماً فَأَكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ مِفْتَاحُ كُلِّ رَحْمَة وَنَجَاحُ كُلِّ حَاجَة وَلاَ يُنَالُ مَا عِنْدَ اللهِ عزَّ وَجَلَّ إِلاَّ بِالدُّعَاءِ وَإِنَّهُ لَيسَ بَابٌ يُكْثَرُ قُرْعُهُ إِلاَّ يُوشَكُ أَنْ يُفْتَحَ لِصَاحِبهِ»(532).
نعم، إنه قريب منّا، وكيف يبتعد وهو سبحانه (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)(533).

* * *

بحوث


1 ـ فلسفة الدعاء
أُولئك الجاهلون بحقيقة الدعاء وآثاره التربويّة والنفسية، يطلقون أنواع التشكيك بشأن الدعاء.
يقولون: الدعاء عامل مخدّر، لأنه يصرف النّاس عن الفعّالية والنشاط وعن يتطوير الحياة، ويدفعهم بد من ذلك إلى التوسّل بعوامل غيبية.
ويقولون: إن الدعاء تدخّل في شؤون الله، والله يفعل ما يريد، وفعله منسجم مع مصالحنا، فما الداعي إلى الطلب منه والتضرّع إليه؟!
ويقولون أيضاً: إنّ الدعاء يتعارض مع حالة الإِنسان الراضي بقضاء الله المستسلم لإِرادته سبحانه!
هؤلاء، ـ كما ذكرنا ـ يطلقون هذا التشكيك لجهلهم بالآثار التربوية والنفسية والإِجتماعية للدعاء، فالإِنسان بحاجة أحياناً إلى الملجأ الذي يلوذ به في الشدائد، والدعاء يضيء نور الأمل في نفس الإِنسان.
من يبتعد عن الدعاء يواجه صدمات عنيفة نفسية واجتماعية. وعلى حد تعبير أحد علماء النفس المعروفين:
«ابتعاد الاُمّة عن الدعاء يعني سقوط تلك الاُمّة! المجتمع الذي قمع في نفسه روح الحاجة إلى الدعاء سوف لا يبقى مصوناً عادة من الفساد والزوال.
ومن نافلة القول أنه من العبث الإِكتفاء بالدعاء لدى الصباح وقضاء بقية اليوم كالوحش الكاسر، لابدّ من مواصلة الدعاء، ومن اليقظة المستمرة، كي لا يزول أثره العميق من نفس الإِنسان».(534)
وأُولئك الذين يصفون الدعاء بأنه تخديري لم يفهموا معنى الدعاء، لأن الدعاء لا يعني ترك العلل والوسائل الطبيعية واللجوء بدلها إلى الدعاء، بل المقصود أن نبذل نهاية جهدنا للإِستفادة من كل الوسائل الموجودة، بعد ذلك إن انسدت أمامنا الطرق، وأعيتنا الوسيلة، نلجأ إلى الدعاء، وبهذا اللجوء إلى الله يحيى في أنفسنا روح الأمل والحركة، ونستمد من عون المبدأ الكبير سبحانه.
الدعاء إذن لا يحل محل العوامل الطبيعية.
«الدعاء ـ إضافة إلى قدرته في بث الطمأنينة في النفس ـ يؤدي إلى نوع من النشاط الدماغي في الإِنسان، وإلى نوع من الإِنشراح والإِنبساط الباطني وأحياناً إلى تصعيد روح البطولة والشجاعة فيه. الدعاء يتجلى بخصائص مشخصة فريدة ... صفاء النظرة، وقوة الشخصية، والإِنشراح والسرور، والثقة بالنفس، والإِستعداد للهداية، واستقبال الحوادث بصدر رحب، كل هذه مظاهر لكنز عظيم دفين في نفوسنا. وانطلاقاً من هذه القوّة يستطيع حتى الأفراد المتخلفون أن يستثمروا طاقاتهم العقلية والأخلاقية بشكل أفضل، وأكثر. لكن الأفراد الذين يفهمون الدعاء حق فهمه قليلون جداً ـ مع الأسف ـ في عالمنا اليوم»(535).
ممّا تقدم نفهم الرد على من يقول أن الدعاء يخالف روح الرضا والتسليم، لأن الدعاء ـ كما ذكرنا ـ نوع من كسب القابلية على تحصيل سهم أكبر من فيض الله اللامتناهي.
بعبارة اُخرى: الإِنسان ينال بالدعاء لياقة أكبر للحصول على فيض الباري تعالى. وواضح أن السعي للتكامل ولكسب مزيد من اللياقة هو عين التسليم أمام قوانين الخليقة، لا عكس ذلك.
أضف إلى ذلك، الدعاء نوع من العبادة والخضوع والطاعة، والإِنسان ـ عن طريق الدعاء ـ يزداد إرتباطاً بالله تعالى، وكما أن كلّ العبادات ذات أثر تربوي كذلك الدّعاء له مثل هذا الأثر.
والقائلون أن الدعاء تدخّل في أمر الله وأن الله يفعل ما يشاء، لا يفهمون أن المواهب الإِلهية تغدق على الإنسان حسب استعداده وكفاءته ولياقته، وكلّما ازداد استعداده ازداد ما يناله من مواهب.
لذلك يقول الإِمام الصادق(عليه السلام): «إِنَّ عِنْدَ اللهِ عَزّ وَجلَّ مَنْزِلَةً لاتُنَالُ إِلاَّ بِمَسْأَلَة»(536).
ويقول أحد العلماء: «حينما ندعو فإننا نربط أنفسنا بقوة لا متناهية تربط جميع الكائنات مع بعضها»(537).
ويقول: «إنّ أحدث العلوم الإِنسانية ـ أعني علم النفس ـ يعلّمنا نفس تعاليم الأنبياء، لماذا؟ لأن الأطباء النفسانيين أدركوا أن الدعاء والصلاة والإِيمان القوي بالدين يزيل عوامل القلق والاضطراب والخوف والهيجان الباعثة على أكثر أمراضنا»(538).
2 ـ المفهوم الحقيقي للدعاء

علمنا أنّ الدعاء إنّما يكون فيما خرج عن دائرة قدرتنا، بعبارة اُخرى الدعاء المستجاب هو ما صدر لدى الاضطرار وبعد بذل كل الجهود والطاقات (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُظْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)(539). يتضح من ذلك أن مفهوم الدعاء طلب تهيئة الأسباب والعوامل الخارجة عن دائرة قدرة الإِنسان، وهذا الطلب يتجه به الإِنسان إلى من قدرته لا متناهية ومن يهون عليه كل أمر.
هذا الطلب طبعاً يجب أن لا يصدر من لسان الإِنسان فقط، بل من جميع وجوده، واللسان ترجمان جميع ذرات وجود الإِنسان وأعضائه وجوارحه.
يرتبط القلب والروح بالله عن طريق الدعاء إرتباطاً وثيقاً، ويكتسبان القدرة عن طريق اتصالهما المعنوي بالمبدأ الكبير، كما تتصل القطرة من الماء بالبحر الواسع العظيم.
جدير بالذكر أن هناك نوعاً آخر من الدعاء يردّده المؤمن حتى فيما اقتدر عليه من الأُمور، ليعبّر به عن عدم استقلال قدرته عن قدرة الباري تعالى، وليؤكد أن العلل والعوامل الطبيعية إنما هي منه سبحانه، وتحت إمرته. فإن بحثنا عن الدواء لشفاء دائنا، فإنّما نبحث عنه لأنّه سبحانه أودع في الدواء خاصية الشفاء (هذا نوع آخر من الدعاء أشارت إليه الروايات الإِسلامية أيضاً).
بعبارة موجزة: الدعاء نوع من التوعية وإيقاظ القلب والعقل، وإرتباط داخلي بمبدأ كل لطف وإحسان، لذلك نرى أمير المؤمنين علياً(عليه السلام) يقول: «لاَ يَقْبَلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ دُعَاءَ قَلْب لاَه»(540).
وعن الإِمام الصّادق(عليه السلام): «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَسْتَجيبُ دُعَاءً بَظَهْرِ قَلْب سَاه»(541).
3 ـ شروط استجابة الدعاء:

دراسة شروط استجابة الدعاء توضّح لنا كثيراً من الحقائق الغامضة في مسألة الدعاء، وتبين لنا آثاره البناءة، والروايات الإِسلامية تذكر شروطاً لاستجابة الدعاء منها:
ي1 ـ ينبغي لمن يدعو أن يسعى أو لتطهير قلبه وروحه، وأن يتوب من الذنب، وأن يقتدي بحياة قادة البشرية الإِلهيين.
عن الإِمام الصادق(عليه السلام): «إِيَّاكُمْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ شَيْئاً مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ حَتَّى يَبْدَأَ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ، وَالْمِدْحَةِ لَهُ وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِّي وَآلِهِ، وَالاِْعْتِرافِ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ الْمَسْأَلَة»(542).
2 ـ أن يسعى الداعي إلى تطهير أمواله من كل غصب وظلم، وأن لا يكون طعامه من حرام. عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُسْتَجَابَ دُعاؤُهُ فَلْيَطِبْ مَطْعَمَهُ وَمَكْسَبَهُ»(543).
3 ـ أن لا يفترق الدعاء عن الجهاد المستمرّ ضدّ كل ألوان الفساد، لأنّ الله لا يستجيب ممن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُسَلّطَنَّ اللهُ شَرَارَكُمْ عَلَى خِيَارِكُمْ فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ»(544).
ترك هذه الفريضة الإِلهية (فريضة المراقبة الإِجتماعية) يؤدي إلى خلوّ الساحة الإِجتماعية من الصالحين، وتركها للمفسدين، وعند ذاك لا أثر للدعاء، لأن هذا الوضع الفاسد نتيجة حتمية لأعمال الإِنسان نفسه.
4 ـ العمل بالمواثيق الإِلهية، الإِيمان والعمل الصالح والأمانة والصلاح من شروط استجابة الدعاء، فمن لم يف بعهده أمام بارئه لا ينبغي أن يتوقع من الله استجابة دعائه.
جاء رجل إلى أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، وشكا له عدم استجابة دعائه، فقال الإِمام: «إِنَّ قُلُوبَكُمْ خَانَتْ بِثَمـَانِ خِصَال:
أَوَّلُهَا: إِنَّكُمْ عَرَفْتُمُ اللهَ فَلَمْ تُؤَدُّوا حَقَّهُ كَمَا أَوْجَبَ عَلَيْكُمْ، فَمَا أَغْنَتْ عَنْكُمْ مَعْرِفَتُكُمْ شَيئاً.
وَالثَانِيَةُ: إِنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِرَسُولِهِ ثُمَّ خَالَفْتُمْ سُنَّتَهُ، وَأَمَتُّمْ شَرِيعَتَهُ فَأَيْنَ ثَمَرَةُ إِيَمانِكُمْ؟!
وَالثَّالِثَةُ: إِنَّكُمْ قَرَأْتُمْ كِتَابَهُ الْمُنْزَلَ عَلَيْكُمْ فَلَمْ تَعْمَلُوا بِهِ، وَقُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ثُمَّ خَالَفْتُمْ!
وَالرَّابِعَةُ: إنَّكُم قُلتُم تَخَافُونَ مِنَ النَّارِ، وَأنْتُم فِي كُلِّ وَقت تَقدُمُونَ إلَيها بِمَعاصِيكُم فَأينَ خَوفُكُم؟!
وَالْخَامِسَةُ: إِنَّكُمْ قُلْتُمْ تَرْغَبُونَ في الْجَنَّةِ، وأَنْتُمْ في كُلِّ وَقْت تَفْعَلُونَ مَا يُبَاعِدُكُمْ مِنْها فَأَيْنَ رَغْبَتُكُمْ فِيهَا؟
وَالسَّادِسَةُ: إِنَّكُمْ أَكَلْتُمْ نِعْمَةَ الْمَوْلى فَلَمْ تَشْكُرُوا عَلَيْهَا!
وَالسَّابِعَةُ: إِنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِعَداوَةِ الشَّيْطَانِ، وَقَالَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُواً)، فَعَادَيْتُمُوهُ بِلاَ قَوْل، وَوَاليـَمُوهُ بِلاَ مخَالَفَة.
وَالثَّامِنَةُ: إِنَّكُمْ جَعَلْتُمْ عُيُوبَ النَّاسِ نَصْبَ أَعْيُنِكُمْ وَعُيْوبَكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ تَلُومُونَ مَنْ أَنْتُمْ أَحَقُّ بِالْلَوْمِ مِنْهُ فَأَيُّ دُعَاء يُسْتَجَابُ لَكُمْ مَعَ هَذا، وَقَدْ سَدَدْتُمْ أَبْوَابَهُ وَطُرُقَهُ؟ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا أَعْمَالَكُمْ وَأَخْلِصُوا سَرَائِرَكُمْ وَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَن الْمُنْكَرِ فَيَسْتَجِيبُ اللهُ لَكُمْ دُعَاءَكُمْ»(545).
هذا الحديث يقول بصراحة: إن وعد الله باستجابة الدعاء وعد مشروط لا مطلق. مشروط بتنفيذ المواثيق الإِلهية، وإن عمل الإِنسان بهذه المواثيق الثمانية المذكورة فله أن يتوقع استجابة الدعاء، وإلاّ فلا.
العمل بالأُمور الثمانية المذكورة باعتبارها شروطاً لاستجابة الدعاء كاف لتربية الإِنسان ولإستثمار طاقاته على طريق مثمر بنّاء.
5 ـ من الشروط الاُخرى لاستجابة الدعاء العمل والسعي، عن علي(عليه السلام): «الدَّاعِي بِلاَ عَمَل كَالرَّامِي بِلاَ وَتَر»(546).
الوتر بحركته يدفع السهم نحو الهدف، وهكذا دور العمل في الدعاء.
من مجموع شروط الدعاء المذكورة نفهم أن الدعاء لا يغنينا عن التوسل بالعوامل الطبيعية، بل أكثر من ذلك يدفعنا إلى توفير شروط إستجابة الدعاء في أنفسنا، ويحدث بذلك تغييراً كبيراً في حياة الإِنسان وتجديداً لمسيرته، وإصلاحاً لنواقصه.
أليس من الجهل أن يصف شخص الدعاء بهذا المنظار الإِسلامي أنه مخدّر؟!

* * *


الآيتان


أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَتُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَاعَنكُم فَالْئَـنَ بَـشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الاَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَـشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـكِفُونَ فِى الْمَسَـجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ ءَايَـتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ__

سبب النّزول


روي أن الأكل كان محرّماً في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراماً بالليل والنهار في شهر رمضان. وكان رجل من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقال له مطعم بن جيبر شيخاً ضعيفاً، وكان صائماً، فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر، فلما انتبه قال لأهله: قد حُرّم عليّ الأكل في هذه الليلة.
فلما أصبح حضر حفر الخندق فأُغمي عليه، فرآه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فرقّ له.
وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّاً في شهر رمضان، فأنزل الله هذه الآية فأحلّ النّكاح بالليل في شهر رمضان، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر(547).

التّفسير


رخصة في أحكام الصّوم
مرّ بنا في سبب نزول الآية أن النكاح كان محرّماً في ليالي شهر رمضان إضافة إلى نهاره، وأن الأكل والشرب كانا محرمين في الليل أيضاً بعد النوم، ولعل ذلك كان اختباراً للجيل الإِسلامي الأوّل وإعداداً له كي يتقبل أحكام الصوم الثابتة.
الآية الكريمة تتضمن أربعة أحكام إسلامية في حقل الصوم والاعتكاف. يتقول أو: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ(548) إِلى نِسَائِكُمْ).
ثم تذكر الآية سبب الحكم فتقول: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ).
واللباس يحفظ الجسم من الحر والبرد وأنواع الأخطار من جهة، ويستر عيوب الجسم من جهة اُخرى، أضف إلى أنه زينة للإِنسان، وتشبيه الزوج باللباس يشمل كل هذه الجوانب.
الزوجان يحفظ كل منهما الآخر من الإِنحراف والعيوب، ويوفّر كل منهما سبل الراحة والطمأنينة للآخر، وكل منهما زينة للآخر.
هذا التعبير يوضّح غاية الإِرتباط المعنوي بين الرجل والمرأة ومساواتهما في هذا المجال، فالتعبير جاء للرجل كما جاء للمرأة بدون تغيير.
ثم يبين القرآن سبب تغيير هذا القانون الإِلهي ويقول: (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ).
فالله سبحانه وسّع عليكم الأمر وخفّفه، وجعل فيه رخصة بلطفه ورحمته، كي لا تتلوثوا بالذنوب.
(فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ).
وهذا الأمر لا يعني طبعاً الوجوب، بل هو رخصة بعد المنع، أو هو بتعبير الأُصوليين «الأمر عقيب الخطر»، ويدل على الجواز.
عبارة (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) إشارة إلى أن الإِستفادة من هذه الرخصة الكائنة في مسير قوانين الخلقة وحفظ النظام وبقاء النسل لا مانع فيها.
ثمّ تبيّن الآية الحكم الثاني وتقول: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الاَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاَْسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).
للمسلم ـ إذن ـ أن يأكل ويشرب في الليل، حتى إذا طلع الفجر يمسك.
وتبين الآية الحكم الثالث: (ثُمَّ أَتِمُوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ).
هذه الجملة تأكيد على حظر الأكل والشرب والنكاح في أيّام شهر رمضان للصائمين، وتشير إلى أن الحظر يبدأ من طلوع الفجر وينتهي عند الليل.
تطرح الآية بعد ذلك الحكم الرّابع وتقول: (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمِسَاجِدِ).
هذا الحكم يرتبط بالاعتكاف، وهو شبيه بالإِستثناء من الحكم السابق، ففي الاعتكاف الذي لا تقلّ مدّته عن ثلاثة أيّام، لا يحق للمعتكف الصائم أن يباشر زوجته لا في الليل ولا في النهار.
في ختام الآية عبارة تشير إلى كل ما ورد فيها من أحكام تقول: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا) لأن الاقتراب من الحدود يبعث على الوسوسة، وقد يدفع الإِنسان إلى تجاوز الحدود والوقوع في الذنب.
نعم، (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

* * *

بحوث


1 ـ الحدود الإِلهية:
بعد أن ذكرت الآية الكريمة بعض أحكام الصوم والاعتكاف، عبّرت عن هذه الأحكام بالحدود الإِلهية، وهي الحدود بين الحلال والحرام ... بين الممنوع والمباح. ومن الملفت للنظر أن الآية لم تقل لا تتجاوزوا هذه الحدود، بل قالت: (فَلاَ تَقْرَبُوهَا)، لأن الاقتراب منها يؤدي إلى إثارة الوساوس، وقد يؤدي أحياناً إلى تجاوز هذه الحدود.
لذلك نهى الإِسلام عن الولوج في مناطق تؤدي إلى إنزلاق الإنسان في يالمحرمات، كالنهي مث عن الاشتراك في مجالس شرب الخمر حتى مع عدم التلوث بالخمرة، أو النهي عن الاختلاء بالمرأة الأجنبية.
هذا النهي ورد في النصوص الإِسلامية تحت عنوان «حماية الحمى».
ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، فَمَنْ يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمى يُوشَكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»(549).
من هنا فالمتقون لا يجنّبون أنفسهم الوقوع في المحرمات فحسب، بل يسعون إلى عدم الإِقتراب من حافّة الحرام.  2 ـ الاعتكاف:

العكوف والإعتكاف أصله اللزوم، يقال: عكفت بالمكان، أي أقمت به ملازماً له، وهو في الشرع اللبث في المساجد للعبادة، وأقلّه ثلاثة أيّام يصوم خلالها المعتكف ويكفّ عن بعض المباحات.
هذه العبادة لها الأثر العميق على تصفية الروح والقرب من الله، وذكرت كتب الفقه آدابها وشروطها، هذه العبادة مستحبة، وقد تتخذ أحياناً في ظروف استثنائية طابع الوجوب. في الآية التي نبحث فيها ورد ذكر أحد شروط الإِعتكاف وهو يحظر النكاح لي ونهاراً، وهذه الإشارة جاءت لإِرتباطها بمسألة الصوم.  3 ـ طلوع الفجر:

الفجر في الأصل شقّ الشيء شقاً واسعاً، وسمّي الصبح فجراً لأنه فَجَر الليل.
وعبّرت الآية عن الفجر أيضاً بأُسلوب (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيطُ اَلاَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاَْسْوَدِ). ومن الظريف أن «عدي بن حاتم» قال للنبي: إني وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود فكنت أنظر فيهما فلا يتبين لي، فضحك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)حتى رؤيت نواجذه ثم قال: «يَا ابْنَ حَاتَم إِنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ فَابْتِدَاءُ الصَّوْمِ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ»(550).
وهذا التعبير يوضّح أيضاً الفرق بين الصبح الصادق والصبح الكاذب: لأنّ الفجر فجران: الفجر الكاذب وهو على شكل عمود من الضوء يظهر في السماء كذنب السرحان (الثعلب)، وبعده يظهر الفجر الصادق وهو بياض شفّاف أُفقي يظهر في أُفق السماء كخيط أبيض يظهر إلى جوار الخيط الأسود. وهذا هو الصبح الصادق وبه يتعلق حكم الصوم والصلاة. ولا يشبه الفجر الكاذب. 4 ـ التقوى، هي الأوّل والآخر: في أوّل آية ترتبط بأحكام الصوم ورد ذكر التقوى على أنها الهدف النهائي للصوم، وفي آخر آية أيضاً وردت عبارة (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) وهذا يؤكد أن كل مناهج الإِسلام وسيلة لتربية الروح والتقوى والفضيلة والإِرادة والإِحساس بالمسؤولية.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 29
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست