responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 26

الآيات


وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادَاً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً وَأَنَّ الله شَدِيدُ الْعَذَابِ __إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاَْسْبَابُ__ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوَا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَـلَهُمْ حَسَرَت عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَرجِينَ مِنَ النَّارِ__

التّفسير


أئمّة الكفر يتبرّأون من أتباعهم!
تناولت الآيات السابقة دلائل وجود الله سبحانه وإثبات وحدانيته، عن طريق عرض مظاهر لنظام الكون. وهذه الآيات تتحدث عن أولئك الذين أعرضوا عن كل تلك الدلائل الواضحة، وساروا على طريق الشرك والوثنية وتعدّد الآلهة .. عن أُولئك الذين يحنون رؤوسهم تعظيماً أمام الآلهة المزيقة، ويتعشقونها ويشغفون بها حبّاً لا يليق إلاّ بالله سبحانه مصدر كل الكمالات وواهب جميع النعم.
تقول الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً)(476).
ولم يتخذ المشركون هؤلاء الأنداد للعبادة فحسب، بل (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ). (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لله)، لأنهم أصحاب عقل وإدراك، يفهمون أن الله سبحانه مصدر كل الكمالات، وهو وحده اللائق بالحبّ، ولا يحبون شيئاً آخر إلاّ من أجله. وقد غمر الحبّ الإلهي قلبهم حتى أصبحوا يرددون مع أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام): «فَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلى عَذَابِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ»؟!(477).
الحبّ الحقيقي يتجه دائماً نحو نوع من الكمال، فالإِنسان لا يحبّ العدم والنقص، بل يسعى دوماً وراء الوجود والكمال، ولذلك كان الأكمل في الوجود والكمال أحق بالحبّ.
الآية أعلاه تؤكد أن حبّ المؤمنين لله أشدّ من حبّ الكافرين لمعبوداتهم.
ولم لا يكون كذلك؟! فلا يستوي من يحبّ عن عقل وبصيرة، ومن يحبّ عن جهل وخرافة وتخيّل.
حبّ المؤمنين ثابت عميق لا يتزلزل، وحبّ المشركين سطحي تافه لا بقاء له ولا استمرار.
لذلك تقول الآية: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ، أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَديدُ الْعَذابِ) لرأوا سوءَ فعلهم وسوءَ عاقبتهم(478).
في هذه اللحظات تزول حجب الجهل والغرور والغفلة من أمام أعينهم، وحين يرون أنفسهم دون ملجأ أو ملاذ، يتجهون إلى قادتهم ومعبوديهم، ولات حين ملاذ بغير الله (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ).
واضح أن المعبودين هنا ليسوا الأصنام الحجرية أو الخشبية، بل الطغاة الجبابرة الذين استعبدوا النّاس، فقدم لهم المشركون فروض الولاء والطاعة، واستسلموا لهم دون قيد أو شرط.
هؤلاء الغافلون المغفّلون حين يروا ما حلّ بهم يمنّون أنفسهم: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةَ فَنَتَبَرَّاً مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُا مِنّا) لكنها أُمنية لا تتحقق، وعبرت آية اُخرى عن مثل هذا التمني على لسان كافر يقول لمعبوده المزيف: (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرينُ)(479).
ثم تقول الآية: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرات عَلَيْهِمْ، وَما هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ).
ليس لهم إلاّ أن يتحسّروا، يتحسّرون على أموالهم التي كنزوها واستفاد منها غيرهم ... وعلى فرصة الهداية والنجاة التي هيئت لهم فلم يستثمروها ... وعلى عبادتهم لآلهة زائفة بدل عبادة الله الواحد الأحد.
لكنّها حسرة غير نافعة ... فاليوم الجزاء على ما جنته يد الإنسان من أخطاء، وليس يوم تلافي الأخطاء.

* * *


الآيتان


ييَـأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِى الاَْرْضِ حَلَـ طَيِّباً وَلاَتَتَّبِعُوا خُطُوَتِ الشَّيْطَـنِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ__ إِنَّمَا يَأمُرُكُم بِالسُّوء وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ__

سبب النّزول


عن ابن عباس أن طوائف من العرب مثل ثقيف وخزاعة، حرموا على أنفسهم بعض النباتات والحيوانات دونما دليل، (ونسبوا التحريم إلى الله أيضاً)، فنزلت الآيتان تنهاهم عن ذلك.

التّفسير


خطوات الشيطان!
ذمّت الآيات السابقة الشرك والمشركين، وأحد أنواع الشرك إيكال أمر التقنين والتشريع وتقرير الحلال والحرام إلى غير الله.
الآية أعلاه اعتبرت هذا العمل شيطانياً وقالت: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي يالأَرْضِ حَلاَ طَيِّباً، وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
تكرر في القرآن طلب الإستفادة من الأطعمة، وورد الطلب عادة مقيّداً بالحلال وبالطيّب.
و«الحلال» ما أُبيح تناوله، والطيب ما طاب ووافق الطبع السليم، ويقابله «الخبيث» الذي يشمأز منه الإنسان.
و«الخطوات» جمع «خطوة» وهي المرحلة التي يقطعها الشيطان للوصول إلى هدفه وللتغرير بالنّاس.
عبارة (لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) تكررت خمس مرات في القرآن الكريم، وكانت في موضعين بشأن الإستفادة من الأطعمة والرزق الإلهي. وهي تحذير من استهلاك هذه النعم الإلهية في غير موضعها. وحثّ على الإستفادة منها على طريق العبودية والطاعة لا الفساد والطغيان في الأرض.
النهي عن اتباع خطوات الشيطان في استثمار مواهب الطبيعة، توضحه آيات اُخرى تنهى أيضاً عن الإفساد في استثمار ما وهبه الله للناس، كقوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(480)، وكقوله سبحانه (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ)(481).
هذه المواهب والإمكانات ينبغي أن تكون طاقة دافعة نحو الطاعة لا وسيلة لارتكاب الذنوب.
عبارة (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تكررت في القرآن الكريم عشر مرات بعد الحديث عن الشيطان، كي تحفّز الإنسان، وتجعله متأهباً لمجابهة هذا العدوّ اللدود الظاهر.
الآية التالية تؤكد على عداء الشيطان، وعلى هدفه المتمثل في شقاء الإنسان، وتقول: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
منهج الشيطان يتلخص في ثلاثة أبعاد هي: السوء،والفحشاء،والتّقول على الله.
الفحشاء من «الفحش»، وهو كل عمل خارج عن حدّ الإعتدال، ويشمل كل المنكرات والقبائح المبطنة والعلنية. واستعمال هذه المفردة حالياً بمعنى الأعمال المنافية للعفّة هو من قبيل استعمال اللفظ الكلي في بعض مصاديقه.
عبارة (تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) قد تشير إلى تحريم بعض الأطعمة المحللة، كما مرّ بنا في سبب النّزول. وهو عمل بعض القبائل العربية في الجاهلية، وقيل: إن رواسبه كانت باقية في ذهن بعض المسلمين الجدد(482).
وقد يتسع معناها ليشمل الشرك والتشبيه بالله أيضاً.
على أية حال، العبارة تشير إلى القول غير القائم على العلم، وهو قول شيطاني مذموم، خاصة إذا كان متضمناً نسبة شيء إلى الله.
الإسلام يحثّ دوماً على الإنطلاق من العقل والمنطق في اتخاذ المواقف وفي إصدار الأحكام، ولو كان دأب أفراد المجتمع ذلك لزال من المجتمع الشقاء.
كل ما دخل في الأديان الإلهية من تحريف ومسخ إنما كان على يد أفراد بعيدين عن المنطق، والجانب الأكبر من الإنحرافات العقائدية يعود إلى عدم رعاية هذا الأصل، لذلك كان محوراً من محاور النشاط الشيطاني بعنوان مستقل ـ في مقابل السوء والفحشاء ـ في الآية المذكورة.

* * *

بحوث


1 ـ أصل الحليّة:
هذه الآية تدل على أنّ الأصل في كل الأغذية الموجودة على ظهر الأرض الحليّة، والمستثناة هي الأغذية المحرمة. من هنا فإن الحرمة تحتاج إلى دليل لا الحلية. وهذا ما يقتضيه أيضاً طبيعة الخليقة. إذ لابدّ من وجود تنسيق بين القوانين التشريعية والقوانين التكوينية.
بعبارة أوضح ما خلقه الله لابدّ أن ينطوي على فائدة لعباده. من هنا فلا معنى أن يكون الأصل الأوّلى للأطعمة على ظهر الأرض التحريم. فكل غذاء إذن حسب هذه الآية الكريمة حلال ما لم تثبت حرمته بدليل صحيح، ومادام لا يشكل ضرراً على الفرد والمجتمع.
2 ـ الإنحرافات التدريجية

عبارة (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) قد تشير إلى مسألة تربوية دقيقة، هي إنّ الإنحرافات تدخل ساحة الإِنسان بشكل تدريجي، لا دفعي فوري. فتلوّث شاب يبالقمار، أو شرب الخمر، أو بالمخدرات مث يتم على مراحل:
ييشترك أوّ متفرجاً في جلسة من جلسات الخمارين أو المقامرين، ظاناً أنه عمل اعتيادي لا ضير فيه.
ثم يشترك في القمار للترويح عن النفس (دون ربح أو خسارة)، أو يتناول شيئاً من المخدرات بحجة رفع التعب أو المعالجة أو أمثالها من الحجج.
وفي الخطوة الاُخرى يمارس العمل المحرم قاصداً أنه يمارسه مؤقتاً.
وهكذا تتوالى الخطوات واحدة بعد اُخرى ويصبح الفرد مقامراً محترفاً أو مدمناً خطراً.
وساوس الشيطان تدفع بالفرد على هذه الصورة التدريجية نحو هاوية السقوط، وليست هذه طريقة الشيطان الأصلي فحسب، بل كل الأجهزة الشيطانية تنفذ خططها المشؤومة على شكل «خُطُوات» لذلك يحذّر القرآن كثيراً من اتّخاذ الخطوة الاُولى على طريق الإنزلاق.
جدير بالذكر أن الأعمال الخرافية غير القائمة على أساس منطقي اعتبرتها النصوص الإسلامية من «خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ».
وقد ورد في رجل أقسم أن يذبح ابنه، قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): «ذَلِكَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ»(483).
وعن الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام): «كُلُّ يَمِين بِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ».(484)
وعن الامام الصادق أيضاً: «إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى شَيء وَالَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ إِتْيَانُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلاَ كَفَّارَةَ لَهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ»(485).
3 ـ الشّيطان عدوّ قديم

الآية الكريمة وصفت الشّيطان أنّه (عَدُوٌّ مُبِينٌ)، وذلك إمّا لعدائه لآدم بعد أن أبى السجود له، وخسر كل شيء على أثر ذلك. وإما بسبب إغوائه الواضح لبني البشر ودفعهم على طريق الإجرام. وواضح أن هذا الدفع لا يصدر إلاّ من عدوّ لدود.
أو لأن الشيطان أعلن عداءه صراحة للإنسان، وعاهد نفسه على إغوائهم إذ قال: (لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ).
4 ـ طريقة الوسوسة الشّيطانية

الآية الكريمة تحدثت عن أمر الشيطان: فقالت: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ ...) وهذا الأمر هو الوسوسة الشيطانية. وقد يطرح سؤال بشأن هذه الأوامر الشيطانية إذ لا يحسّ الإنسان بأمر خارجي يصدر إليه حين يرتكب السيئات، ولا يتلمس سعياً شيطانياً لإضلاله.
الجواب هو أن هذه «الوسوسة» تأثير خفي عبّرت عنه بعض الآيات بالإيحاء: (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيَائِهِمْ)(486). والإيحاء من «الوحي» الذي هو تأثير غيبي خفي أو التأثيرات اللاواعية أحياناً.
وثمّة فرق بين «الإلهام الإلهي» و«الوسوسة الشيطانية» هو إن الإلهام الإلهي لانسجامه مع الفطرة الإنسانية ومع تركيب الجسم والروح، يترك في النفس حالة انبساط وانشراح.
بينما الوسوسة الشيطانية لتناقضها مع الفطرة الإنسانية السليمة، تجعل القلب يحسّ بظلام وانزعاج وثقل. وإن لم يحدث فيه مثل هذا الإحساس قبل ارتكاب السيئة فإنه يحسّ بها بعد الإرتكاب. هذا هو الفرق بين الإلهامات الشيطانية والإلهامات الإلهية.

* * *


الآيتان


وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ__ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ__

التّفسير


التّقليد الأعمى
تشير الآية إلى منطق المشركين الواهي في تحريم ما أحلّ الله، أو عبادة الأوثان وتقول: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا).
ويدين القرآن هذا المنطق الخرافي، القائم على أساس التقليد الأعمى لعادات الآباء والأجداد، فيقول: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ).
أي إن اتباع الآباء صحيح لو أنهم كانوا على طريق العقل والهداية. أمّا إذا كانوا لا يعقلون ولا يهتدون، فما اتباعهم إلاّ تركيز للجهل والضلال.
الإنسان الجاهلي لا يستند إلى قاعدة ايمانية يحسّ معها بوجوده وبشخصيته وبأصالته، لذلك يستند إلى مفاخر الآباء وعاداتهم وتقاليدهم، ليصطنع له شخصية كاذبة وأصالة موهومة. وهذه عادة الجاهليين قديماً وحديثاً في تعصبهم القومي وخاصة في ما يتعلق باسلافهم.
الإسلام أدان المنطق الرجعي القائم على تقديس ما عليه الآباء والأجداد، لأنه ينفي العقل الإنساني. ويرفض تطوّر التجارب البشرية، ويصادر الموضوعية في معالجة قضايا السلف.
هذا المنطق الجاهلي يسود اليوم ـ ومع الاسف ـ في بقاع مختلفة من عالمنا، ويظهر هنا وهناك بشكل «صنم» يوحي بعادات وتقاليد خرافية مطروحة باسم ي«آثار الآباء» ومؤامرة باسم الحفاظ على المآثر القوميّة والوطنية، مشكّ بذلك أهم عامل لإنتقال الخرافات من جيل إلى جيل آخر.
لا مانع طبعاً من تحليل عادات الآباء وتقاليدهم، فما انسجم منها مع العقل والمنطق حُفِظَ، وما كان وهماً وخرافة لُفِظ. المقدار المنسجم مع العقل والمنطق من العادات والتقاليد يستحق الحفظ والصيانة باعتباره تراثاً قومياً. أمّا الإستسلام التام الأعمى لتلك العادات والتقاليد فليس إلاّ الرجعية والحماقة.
جدير بالذكر أن الآية أعلاه تتحدث عن آباء هؤلاء المشركين وتقول عنهم إنهم لا يعلمون، ولا يهتدون. وهذا يعني إمكان الإقتداء باثنين. بمن كان يملك الفكر والعقل والعلم، ومن كان قد اهتدى بالعلماء.
أما أسلاف هؤلاء فلم يكونوا يعلمون، ولم يكونوا قد اهتدوا بمن يعلم وهذا اللون من التقليد الاعمى هو السبب في تخلف البشرية لانه تقليد الجاهل للجاهل.
الآية التالية تبين سبب تعصّب هؤلاء وإعراضهم عن الإنصياع لقول الحق تقول: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الّذي يَنْعِقُ بِمَا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً). تقول الآية: إن مثلك في دعوة هؤلاء المشركين إلى الايمان ونبذ الخرافات والتقليد الاعمى كَمن يصيح بقطيع الغنم (لإنقاذهم من الخطر) ولكن الاغنام لاتدرك منه سوى أصوات غير مفهومة.
أجل فهؤلاء الكفار والمشركين كالحيوانات والانعام التي لا تسمع من راعيها الذي يريد لها الخير سوى أصوات مبهمة.
ثم تضيف الآية لمزيد من التأكيد والتوضيح أن هؤلاء (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ)(487).
ولذلك يتمسكون بالتقاليد الخاطئة لآبائهم، ويعرضون عن كل دعوة بنّاءة.
وقيل في تفسير الآية أيضاً إن معناها: مثل الذين يدعون أصنامهم وآلهتهم الكاذبة كالذي يدعو البهائم، لا الحيوانات تفهم النداء ولا تلك الأصنام، لأن هذه الأصنام صمّاء بكماء عمياء لا تعقل.
أكثر المفسرين على التّفسير الأوّل للآية، والروايات الإِسلامية تؤيده ونحن على ذلك أيضاً.

* * *

بحثان


1 ـ سبل المعرفة
يحتاج الإنسان في ارتباطه بالخارج دون شك إلى سبل، تسمّى سبل المعرفة. أهم هذه السبل العين والأُذن للرؤية والسماع، واللسان للسؤال.
لذلك، بعد أن تصف الآية هؤلاء بأنهم صم بكم عمي، تستنتج باستعمال فاء التفريع وتقول: (فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ).
من هنا يقرر القرآن أن أساس العلوم العين والأُذن واللسان، العين والأُذن للفهم المباشر، واللسان لإِقامة الإِرتباط بالآخرين وكسب علومهم.
والفلسفة أثبتت أيضاً حقيقة انطلاق العلوم غير الحسية أيضاً من العلوم الحسيّة، وهو بحث واسع لا مجال هنا لشرحه. (لمزيد من التوضيح عن نعمة ادوات المعرفة راجع المجلد الثامن من هذا التّفسير، في شرح الآية 78 من سورة النحل).  2 ـ نعق الغراب:

إذا صوّت دون أن يمدّ عنقه، فإذا مدّ عنقه وحركها ثم صاح قيل: نغق (بالغين).(488)
ثم توسّعوا في نعق لتشمل كل صوت تنادى به البهائم، وواضح أن هذه البهائم لا تفهم شيئاً من هذا النداء وإن أبدت ردّ فعل تجاه هذا النداء، فإنما هو لدويّ هذا الصوت وطريقة أدائه الخاصة.

* * *


الآيتان


يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَـتِ مَارَزَقْنَـكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ __إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَعَاد فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ__

التّفسير


الطّيبات والخبائث
القرآن ينهج أُسلوب التأكيد والتكرار بأشكال مختلفة في معالجته للإِنحرافات المزمنة. وفي هذه الآيات عودة إلى مسألة تحريم المشركين في الجاهلية لبعض الأطعمة دونما دليل. مع فارق هو أن الخطاب يتجه في هذه الآيات إلى المؤمنين، بينما خاطبت الآيات السابقة جميع النّاس.
تقول الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).
هذه النعم الطيبة المحللة المتناسبة مع الفطرة الإنسانية السليمة قد خلقت لكم، فلم لا تستفيدون منها؟!
هذه الأطعمة تمنحكم القوة على أداء مهامكم، وتذكركم بشكر خالقكم وعبادته.
لو قارنا هذه الآية بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الاَْرْضِ)(489) لفهمنا نكتتين:
تقول الآية هنا: (مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)، بينما تقول تلك (مِمَّا فِي الاَْرْضِ). يولعل هذا الإختلاف يشير إلى أن النعم الطيبة مخلوقة أص للمؤمنين، وغير المؤمنين يتناولون هذه الأطعمة ببركة المؤمنين، كالماء الذي يستعمله البستاني لسقي أشجاره وأغراسه، بينما تستفيد من هذا الماء أيضاً الأعشاب والنباتات الطفيلية.
والاُخرى، أن الآية تقول لعامة النّاس: (كُلُوا ... وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَات الشَّيْطَانِ)وهذه الآية تخاطب المؤمنين وتقول: (كُلُوا ...وَاشْكُرُوا للهِ) أي لا تكتفي هذه الآية بالطلب من المؤمنين أن لا يسيئوا الإستفادة من هذه النعم، بل تحثهم على حسن الإستفادة منها.
فالمتوقع من النّاس العاديين أن لايذنبوا في استهلاك هذه النعم، بينما المتوقع من المؤمنين أن يستثمروها في أفضل طريق.
وقد يثير تكرار التأكيد في القرآن الكريم على الإِستفادة من الأطعمة الطيبة يتساؤ عن سبب هذا التكرار. أمّا لو عدنا إلى تاريخ العصر الجاهلي لفهمنا السبب. فالجاهليون قد حرّموا على أنفسهم بعض الأطعمة دونما دليل، وتناقلت أجيالهم هذا التحريم وكأنّه وحي منزل، ونسبوه أحياناً بصراحة إلى الله، والقرآن استهدف إقتلاع جذور هذه الأفكار الخرافية من أذهانهم.
ثم إن التركيز على كلمة «طيب» يتضمن أيضاً دعوة إلى اجتناب ما خبث من الأطعمة، كالميتة والوحوش والحشرات، وكالمسكرات السائدة بين النّاس بشدّة آنذاك.
في تفسير الآية 32 من سورة الأعراف تحدثنا بالتفصيل عن استثمار المؤمنين الأطعمة الطيبة والزينة المعقولة (المجلد الخامس من هذا التّفسير).
الآية التالية تبين بعض ألوان الأطعمة المحرمة، وتقول: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ).
تذكر الآية ثلاثة أنواع من اللحوم المحرمة إضافة إلى الدم، وهي من أكثر المحرمات انتشاراً في ذلك العصر، في بعضها خبث ظاهر لا يخفى على أحد كالميتة والدم ولحم الخنزير، وفي بعضها خبث معنوي كالتي ذبحت من أجل الأصنام.
الحصر في الآية بكلمة «إنما» هو «حصر إضافي» لا يستهدف منه بيان جميع المحرمات، بل نفي ما ابتدعوه بشأن بعض اللحوم المحللة. بعبارة اُخرى، هؤلاء الجاهليون حرّموا بعض الأطعمة الطيبة استناداً إلى ما توارثوه من خرافات يوأوهام، لكنهم بد من ذلك كانوا يعمدون عند قلة الطعام إلى أكل الميتة أو الخنزير أو الدم.
القرآن يقول لهؤلاء: إن هذه هي الأطعمة المحرمة لا تلك (وهذا هو معنى الحصر الإِضافي).
ولمّا كانت بعض الضرورات تدفع الإنسان إلى تناول الأطعمة المحرمة حفظاً لحياته، فقد استثنت الآية هذه الحالة وقالت: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ).
ومن أجل أن تقطع الآية الطريق أمام من يتذرع بالإضطرار، أكدت على كون المضطر «غير باغ» و«لا عاد». والباغي هو الطالب، والمراد هنا طالب اللذة والعادي هو المتجاوز للحد، أي المتجاوز حدّ الضرورة، فالرخصة هنا إذن لمن لا يريد اللذة في تناول هذه الأطعمة، ولا يتجاوز حد الضرورة اللازمة لنجاته من الموت.
ولأن معنى البغي الظلم أيضاً ذهب بعض المفسرين إلى أن الرخصة ممنوحة لأُولئك الذين يضطرون خلال سفر محلل، لا خلال سفر المعصية.
فالمسافرون لهدف غير مشروغ قد يجب عليهم تناول الأطعمة المحرمة لحفظ النفس من التلف، إلاّ أن هذا العمل يكتب في صحيفة أعماله من الذنوب.
يبعبارة اُخرى: هؤلاء العاصون قد يجب عليهم عق في أسفارهم المحرمة أن يتناولوا شيئاً من الأطعمة المحرمة لدى الإِضطرار، لكن هذا الوجوب لا يرفع عنهم المسؤوليتة، لأنهم أجبروا على ذلك وهم على مسير خاطيء.
وهناك روايات تذكر أن الآية تشير إلى السائرين على طريق الخروج على إمام المسلمين، فهؤلاء مستثنون من هذه الرخصة. وهذه الروايات تشير في الواقع إلى نفس الحقيقة المذكورة، وهكذا الأمر في أحكام صلاة المسافر، فالمسافر يقصر الصلاة في السفر إلاّ ما كان سفراً حراماً، ولذلك يستدلّ بعبارة (غير باغ ولا عاد) للحكمين معاً، حكم صلاة المسافر، وحكم ضرورة تناول اللحوم المحرمة(490)وفي الختام تقول الآية: (إنّ الله غفورٌ رحيمٌ) فإن الله الذيحرّم تلك الأطعمة أباح تناولها في موارد الضرورة برحمته الخاصة.

* * *


نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 26
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست