responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 23

الآية


وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ بِكُلِّ ءَايَة مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِع قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِع قِبْلَةَ بَعْض وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَّمِنَ الظَّلِمِينَ__

التّفسير


لا يرضون بأيّ ثمن
مرّ بنا في تفسير الآية السابقة أن تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لا يمكن أن يثير شبهة حول النّبي، بل إنه من دلائل صحة دعواه، فأهل الكتاب قد قرأوا عن صلاة النّبي الموعود إلى قبلتين، لكن تعصبهم منعهم من قبول الحق.
والإنسان، حين لا يواجه المسائل بقناعات مسبقة، يكون مستعداً للتفاهم ولتصحيح تصوراته بالدليل والمنطق، أو عن طريق إراءة المعجزة.
أمّا حينما يكون قد كوّن له رأياً مسبقاً قاطعاً، وخاصّة حين يكون مثل هذا يالفرد جاه متعصباً، فلا يمكن تغيير رأيه بأي ثمن.
لذلك تقول الآية: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آية مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ).
فلا تتعب نفسك إذن، لأن هؤلاء يأبون الإِستسلام للحق، ولا توجد فيهم روح طلب الحقيقة.
كل الأنبياء واجهوا مثل هؤلاء الأفراد، وهم إمّا أثرياء متنفذون، أو علماء منحرفون، أو جاهلون متعصبون.
ثم تضيف الآية: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِع قِبْلَتَهُمْ).
أي إن هؤلاء لا يستطيعون مهما افتعلوا من ضجيج، أن يغيروا مرّة اُخرى قبلة المسلمين، فهذه هي القبلة الثابتة النهائية.
وهذا التعبير القاطع الحاسم أحد سبل الوقوف بوجه الضجيج المفتعل، ومن الضروري في مثل هذه الظروف أن يعلن الإنسان المسلم أمام الأعداء كلمته صريحة قوية، مؤكداً أنه لا ينثني أمام هذه الإنفعالات.
ثم تقول الآية: (وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِع قِبْلَةَ بَعْض).
لا النصارى بتابعين قبلة اليهود، ولا اليهود بتابعين قبلة النصارى.
ولمزيد من التأكيد والحسم ينذر القرآن النّبي ويقول: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمينَ).
وفي القرآن يكثر مثل هذا اللون من الخطاب التهديدي للنبي بأسلوب القضية الشرطية، والهدف من ذلك ثلاثة أشياء: الأوّل: أن يعلم الجميع عدم وجود أي تمييز بين النّاس في إطار القوانين الإلهية، وحتى الأنبياء مشمولون بهذه القوانين. ومن هنا فلو صدر عن النّبي ـ على الفرض المحال ـ إنحراف، فسيشمله العقاب الإِلهي، مع استحالة صدور ذلك عن النّبي (بعبارة اُخرى القضية الشرطية لا تدل على تحقق الشرط). الثّاني: أن يتنبّه النّاس إلى واقعهم، فإذا كان ذلك شأن النّبي، فمن الأولى أن يكونوا هم أيضاً واعين لمسؤولياتهم، وأن لا يستسلموا إطلاقاً لميول الأعداء وضجاتهم المفتعلة. الثّالث: أن يتّضح عدم قدرة النّبي على تغيير أحكام الله، وعدم إمكان الطلب إليه أن يغير حكماً من الأحكام، فهو عبد أيضاً خاضع لأمر الله تعالى.

* * *


الآيتان


الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَريقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ__ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ__

التّفسير


يعرفون حقّ المعرفة ولكن ...
استمراراً لحديث القرآن عن تعصب مجموعة من أهل الكتاب ولجاجهم، تقول الآية: (أَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَه كما يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ).
إنهم يعرفون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) واسمه وعلاماته من خلال كتبهم الدينية، (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
وهناك طبعاً فريق سارع لاعتناق الإِسلام بعد أن رأى هذه الصفات والعلامات في نبي الإسلام، مثل عبد الله بن سلام وهو من علماء اليهود، ونقل عنه بعد إسلامه قوله «أنا أعلم به مني بابني»(429).
هذه الآية تميط اللثام في الواقع عن حقيقة هامّة، هي إن صفات نبي الإِسلام الجسمية والروحية وخصائصه كانت بقدر من الوضوح في الكتب السماوية السابقة، بحيث ترسم الصورة الكاملة في أذهان المطلعين على هذه الكتب.
وهل من الممكن أن تصرح الآية بوجود اسم النّبي وعلاماته في كتب أهل الكتاب إذا لم تكن بالفعل موجودة عندهم؟! ألا يدل عدم معارضة علماء اليهود لهذا التصريح، بل اعتراف بعضهم به واستسلامهم للحق، أن اسم النّبي الخاتم وصفاته كانت معروفة لديهم!؟
هذه الآيات ـ إذن ـ دليل على صدق دعوة الرّسول وصحّة نبوته.
ثم تؤكد الآية ما سبق أن طرحته بشأن تغيير القبلة، أو بشأن أحكام الإسلام بشكل عام: (أَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي المترددين.
وبهذه العبارة تثبّت الآية فؤاد النّبي، وتنهاه عن أي ترديد أمام افتراءات الأعداء بشأن تغيير القبلة وغيرها، وإن جنّد هؤلاء الأعداء كل طاقاتهم للمحاربة.
المخاطب في الآية وإن كان شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن الهدف هو تربية البشرية كما ذكرنا من قبل، فمن المؤكد أن النّبي المتصل بالوحي الإلهي لا يعتريه تردد، لأن الوحي بالنسبة له ذو جانب حسّي وعين اليقين.

* * *


الآية


وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَتِ أَيْنَ مَاتَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ__

التّفسير


لكلّ أُمّة قبلة
هذه الآية الكريمة ترد على الضجة التي أثارها اليهود حول تغيير القبلة وتقول: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا).
كان للأنبياء على مرّ التاريخ وجهات عديدة يولونها، وليست القبلة كأصول الدين لا تقبل التغيير، ولا أمراً تكوينياً لا يمكن مخالفته، فلا تطيلوا الحديث في أمر القبلة، وبدل ذلك (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)، لأن معيار القيمة الوجودية للإِنسان هي أعمال البرّ والخير.
مثل هذا المعنى تضمنته الآية 177 من هذه السّورة: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيّينَ).
إن كنتم تريدون اختبار الإسلام أو المسلمين، فاختبروهم بهذه الاُمور لا بمسألة تغيير القبلة.
ثم تتغير لهجة الآية إلى نوع من التحذير والتهديد لأُولئك المفترين، والتشجيع للمحسنين فتقول: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) في تلك المحكمة الكبرى حيث يتلقى كلٌ جزاء عمله.
لا يتساوى المفترون والمشاغبون المخربون مع المحسنين المؤمنين، ولابدّ من يوم ينال كل فريق جزاءه.
وقد يخال بعض أن جمع النّاس لمثل هذا اليوم عجيب، فكيف تجتمع ذرات التراب المتناثرة لترتدي ثانية حلّة الحياة؟! لذلك تجيب الآية بالقول: (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ).
هذه العبارة الأخيرة في الآية بمثابة الدليل على العبارة السابقة: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَميِعاً).

* * *

بحثان


1 ـ يوم يجتمع أصحاب المهدي(عليه السلام)
ورد عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في تفسير (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَميعاً)أن المقصود بهم أصحاب المهدي(عليه السلام).
من ذلك ما ورد في «روضة الكافي» عن «الإمام الباقر»(عليه السلام) أنه تلا الفقرة المذكورة من الآية ثم قال: ي«يَعْني أَصْحَابَ الْقَائِمِ الثَلاثَمِائَة وَالبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُ، وَهُمْ وَاللهِ الأُمَّةُ الْمَعْدُودةُ، قَالَ: يَجْتَمِعُونَ وَاللهِ فِي سَاعَة وَاحِدَة قَزَعَ(430) كَقَزَعِ الْخَرِيف»(431) .
وروي عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) أيضاً: «وَذَلِكَ وَاللهِ أَنْ لَوْ قَامَ قَائِمُنَا يَجْمَعُ اللهُ إلَيْهِ جَمِيعَ شِيعَتِنَا مِنْ جَمِيعِ الْبُلْدَانِ»(432).
هذا التّفسير للآية دون شك يتحدث عن «بطن» الآية، والأحاديث ذكرت أن لكلام الله ظاهراً لعامة النّاس، وباطناً لخاصّتهم.
بعبارة اُخرى: هذه الروايات تشير إلى حقيقة، هي إن الله القادر على أن يجمع النّاس من ذرات التراب المتناثرة في يوم القيامة، لقادر على أن يجمع أصحاب المهدي في ساعة بسهولة، من أجل انقداح الشرارة الاُولى للثورة العالمية الرّامية إلى إقامة حكم الله على ظهر الارض، وإزالة الظلم والعدوان عن وجهها.
2 ـ عبارة (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) فسرناها سابقاً بأنها إشارة للقبلات المتعددة للأُمم. ومن المفسرين من توسع في المعنى وقال إنّها تعبّر عن القضاء والقدر التكوينيين أيضاً (تأمل بدقة)(433).
ولو خلت الآية ممّا يحيطها من قرائن قبلها وبعدها لأمكن مثل هذا التّفسير، لكن القرائن تدل على أن المراد هو المعنى الأوّل. ولو افترضنا أن الآية تشير إلى المعنى الثّاني، فلا تعني إطلاقاً القضاء والقدر الجبريين، بل القضاء والقدر المنسجمين مع الإرادة والإختيار(434).

* * *


الآيتان


وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَـفِل عَمَّا تَعْمَلُونَ__ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلاُِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ__

التّفسير


الخوف من الله فقط
هذه الآيات تتابع الحديث عن مسألة تغيير القبلة ونتائجها.
الآية الاُولى تأمر النّبي(عليه السلام) وتقول: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ)... من أية مدينة، وأية ديار (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
ولمزيد من التأكيد تقول الآية: (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).
وتنتهي الآية بتهديد المتآمرين: (وَمَا اللهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ).
هذه التأكيدات المتوالية في الآية وفي الآية التالية تبيّن أن مسألة تغيير القبلة كانت صعبة وثقيلة على مجموعة من المسلمين حديثي العهد بالإسلام، كما كانت ذريعة بيد أعداء الإسلام اللجوجين لبثّ سمومهم.
مثل هذه الحالة تتطلب دائماً موقفاً قاطعاً حاسماً ينهي كل شك وريبة، من هنا توالت التأكيدات القرآنية القارعة لتبعث العزم واليقين في نفوس الأتباع، وتعمق اليأس والخيبة بين الأعداء. وهذا أُسلوب اتبعه القرآن في مواقف عديدة.
إضافة إلى ما سبق، فالتكرار في هذه الآيات يتضمن أيضاً أحكاماً جديدة. على سبيل المثال، الآيات السابقة وضحت حكم القبلة في المدينة التي يسكنها المسلمون. وهذه الآية والآية التالية أوضحت الحكم لدى السفر والخروج من المدن والديار.
الآية التالية كررت الحكم العام بشأن التوجه إلى المسجد الحرام في أي مكان: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
صحيح أن هذه العبارة القرآنية تخاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنها تقصد دون شك مخاطبة عامّة المسلمين، ولمزيد من التأكيد تخاطب الجملة التالية المسلمين وتقول: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
ثم تشير الآية إلى ثلاث مسائل هامّة:
1 ـ إلجام المعارضين ـ تقول الآية: (لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ).
قبل تغيير القبلة كانت ألسنة المعارضين من اليهود والمشركين تقذف المسلمين بالتهم والحجج، اليهود يعترضون قائلين: إن النّبي الموعود يصلي إلى قبلتين، وهذه العلامة غير متوفرة في محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، والمشركون يعترضون على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قائلين: كيف ترك محمّد الكعبة وهو يدعي أنّه بعث لإحياء ملّة إبراهيم. هذا التغيير أنهى كل هذه الإعتراضات.
لكن هذا لا يمنع الأفراد اللجوجين المعاندين أن يصروا على مواقفهم، وأن يرفضوا كل منطق، لذلك تقول الآية: (إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).
فهؤلاء لا يستقيمون على طريق، حتّى اتجهتم صوب بيت المقدس للصلاة اتهموكم بالذيلية وعدم الأصالة، وحين عدلتم إلى الكعبة وصفوكم بعدم الثبات!
هؤلاء المفترون ظالمون حقاً ... ظالمون لأنفسهم، وظالمون لمن يقطعون عليه طريق الهداية.
2 ـ حين وصف الآية هؤلاء المعاندين أنهم ظالمون، فقد يثير هذا الوصف خوفاً في نفوس البعض لذلك قالت الآية: (فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي).
يوهذه الفقرة من الآية تطرح أص عاماً أساسياً من أُصول التربية التوحيدية الإِسلامية، هو عدم الخوف من أي شيء سوى الله (أو بعبارة أصح الخوف فقط من معصية الله)، وإذا ترسخ هذا المبدأ التربوي في نفوس الجماعة المسلمة فلن تفشل ولن تنهزم قط.
أما المتظاهرون بالإسلام فهم يخافون من «الشرق» تارة، ومن «الغرب» تارة اُخرى، ومن «المنافقين الداخليين» ومن «الأعداء الخارجيين» ومن كل شيء سوى الله. وهؤلاء دائماً أذلاء ضعفاء مهزومون.
3 ـ وآخر هدف ذكر لتغيير القبلة هو إتمام النعمة: (وَلاُِتِمَّ نِعْمَتي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
تغيير القبلة كان في الواقع نوعاً من التربية والتكامل والنعمة للمسلمين كي يتعرفوا على الإنضباط الإِسلامي ويتخلصوا من التقليد والتعصب، فالله سبحانه أمر المسلمين في البداية أن يصلوا تجاه بيت المقدس كي تنعزل صفوف المسلمين ـ كما قلنا ـ عن صفوف المشركين الذين كانوا يقدسون الكعبة. وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية صدر الأمر بالصلاة نحو الكعبة ... نحو أقدم بيت توحيدي، وبذلك تحقق اجتياز مرحلة من مراحل تكامل المجتمع الإسلامي.

* * *


الآيتان


يكَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُو مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ__ فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِى وَلاَ تَكْفُرُونِ__

التّفسير


مهمّة رسول الله:
ذكرت الفقرة الأخيرة من الآية السابقة أن أحد أسباب تغيير القبلة هو إتمام النعمة على النّاس وهدايتهم، والآية أعلاه ابتدأت بكلمة «كما» إشارة إلى أن تغيير القبلة ليس هو النعمة الوحيدة التي أنعمها الله عليكم، بل منَّ عليكم بنعم كثيرة (كَمَا يأَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُو مِنْكُمْ).
وكلمة «منكم» قد تعني أن الرّسول بشرٌ مثلكم، والإنسان وحده هو القادر على أن يكون مربّي البشر وقدوتهم وأن يتحسس آمالهم وآلامهم، وتلك نعمة كبرى أن يكون الرّسول بشراً «مِنْكُمْ».
وقد يكون المعنى أنه من بني قومكم ووطنكم، فالعرب الجاهليون قوم متعصبون عنصريون، وما كان بالإمكان أن يخضعوا لنبي من غير قومهم، كما قال سبحانه في الآيتين: (198 و 199) من سورة الشعراء: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنينَ).
كان هذا طبعاً للمرحلة الاُولى من الدعوة، وفي المراحل التالية أُلغيت مسائل القومية والوطن (الجغرافي)، وربّى الإسلام أبناءه على أساس مبادىء «العالميّة» كوطن، و«الإِنسانية» كقومية.
بعد ذكر هذه النعمة يشير القرآن إلى أربع نِعَم عادت على المسلمين ببركة هذه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم):
1 ـ (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا)، ويتلو من التلاوة، أي من إتيان الشيء متوالياً، والإتيان بالعبارات المتوالية (وبنظام صحيح) هي التلاوة.
النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إذن يقرأ عليكم آيات الله متتالية، لتنفذ إلى قلوبكم، ولإعداد أنفسكم إلى التعليم والتربية.
2 ـ (وَيُزَكِّيكُمْ).
و«التّزكية»ي هو الزيادة والإنماء، أي إنّ النّبي بفضل آيات الله يزيدكم كما مادياً ومعنوياً، وينمّي أرواحكم، ويربّي في أنفسكم الطهر والفضيلة، ويزيل ألوان الرذائل التي كانت تغمر مجتمعكم في الجاهلية.
3 ـ (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ).
التعليم طبعاً مقدم بشكل طبيعي على التربية، ولكن القرآن ـ كما ذكرنا ـ يقدم التربية في مواضع تأكيداً على أنها هي الهدف النهائي.
الفرق بين «الكتاب» و«الحكمة» قد يكون بلحاظ أن الكتاب إشارة إلى آيات القرآن والوحي الإِلهي النازل على النّبي بشكل إعجازي، والحكمة حديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتعاليمه المسمّاة بالسنة.
وقد يكون الكتاب إشارة إلى أصل التعاليم الإِسلامية، والحكمة إشارة إلى أسرارها وعللها ونتائجها.
ومن المفسرين من احتمل أن «الحكمة» إشارة إلى الحالة والملكة الحاصلة من تعاليم الكتاب. وبامتلاكها يستطيع الفرد أن يضع الأُمور في نصابها(435).
صاحب «المنار» يرفض أن يكون معنى الحكمة «السنة»، ويستدل على رفضه بالآية الكريمة (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)(436).
لكننا نعتقد أن الحكمة لها معنى واسع يشمل الكتاب والسنة معاً، أمّا استعمالها القرآني مقابل «الكتاب» (كما في هذه الآية) فيشير إلى أنها «السنة» لا غير.
4 ـ (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) وهذا الموضوع طرحته الفقرات السابقة من الآية، حيث دار الحديث عن تعليم الكتاب والحكمة. لكن القرآن عاد فأكد ذلك في فقرة مستقلة تنبيهاً على أن الأنبياء هم الذين بيّنوا لكم المعارف والعلوم، ولولاهم لخفي كثير من ذلك عليكم. فهم لم يكونوا قادة أخلاقيين واجتماعيين فحسب، بل كانوا هداة طريق العلم والمعرفة، وبدون هدايتهم لم يكتب النضج للعلوم الإِنسانية.
بعد استعراض جانب من النعم الإِلهية في الآية، تذكر الآية التالية أن هذه النعم تستدعي الشكر، وبالإستفادة الصحيحة من هذه النعم يؤدي الإنسان حقّ شكر الباري تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُون).
واضح أن عبارة (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) لا تشير إلى معنى عاطفي بين الله وعباده كما يقول النّاس لبعضهم ذلك. بل تشير إلى أصل تربوي وتكويني، أي اذكروني ... اذكروا الذات المقدسة التي هي معدن الخيرات والحسنات والمبرات ولتطهر أرواحكم وأنفسكم، وتكون قابلة لشمول الرحمة الإلهية. ذكركم لهذه الذات المقدسة يجعل تحرككم أكثر إخلاصاً ومضاء وقوّة واتحاداً.
كذلك المقصود من «الشكر وعدم الكفران» ليس تحريك اللسان بعبارات الشكر، بل المقصود استثمار كل نعمة في محلها وعلى طريق نفس الهدف الذي خلقت له، كي يؤدي ذلك الى زيادة الرحمة الإلهية.

* * *

بحثان


1 ـ أقوال المفسرين في تفسير (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)
للمفسرين آراء متنوعة في تفسير هذه الآية، وفي بيان كيفية ذكر العبد وذكر الله.
الفخر الرازي في تفسيره لخصها في عشرة:
1 ـ اُذكروني «بالإطاعة» كي أذكركم «برحمتي». والشاهد على ذلك قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا الله والرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(437).
2 ـ اُذكروني «بالدعاء» كي أذكركم «بالإجابة»، دليل ذلك قوله تعالى: (أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).
3 ـ اُذكروني «بالثناء والطاعة» لأذكركم «بالثناء والنعمة».
4 ـ اُذكروني في «الدنيا» لأذكركم في «الآخرة».
5 ـ أُذكروني في «الخلوات» كي أذكركم في «الجمع».
6 ـ أُذكروني «لدى وفور النعمة» لأذكركم في «الصعاب».
7 ـ أُذكروني «بالعبادة» لأذكركم «بالعون»، والشاهد على ذلك قوله: (إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَاكَ نَسْتَعِين).
8 ـ أُذكروني «بالمجاهدة» لأذكركم «بالهداية»، الشاهد على ذلك قوله سبحانه في الآية 69 من سورة العنكبوت: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).
9 ـ أُذكروني «بالصدق والإخلاص» لأذكركم «بالخلاص ومزيداً للإختصاص».
10 ـ أُذكروني «بالربوبية» لأذكركم بالرحمة. دليل ذلك مجموع آيات سورة الحمد.(438)
كل واحدة من التفاسير المذكورة هي طبعاً مظهر من مظاهر المعنى الواسع للآية. ولا تقتصر هذه المظاهر على ما سبق فيشمل المعنى أيضاً: أُذكروني «بالشكر» لأذكركم «بزيادة النعمة» كما ورد في قوله سبحانه: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)(439)
كل ذكر لله ـ كما قلنا ـ له أثر تربوي في وجود الإنسان إذ يجعل روحه مستعدة لنزول بركات جديدة متناسبة مع طريقة الذكر.
2 ـ المقصود من ذكر الله

من المؤكد أن ذكر الله ليس بتحريك اللسان فقط، بل اللسان ترجمان القلب، الهدف هو التوجه بكل الوجود إلى ذات البارئ سبحانه، ذلك التوجّه الذي يصون الإنسان من الذنب ويدعوه إلى الطاعة.
ومن هنا ورد في أحاديث عديدة عن المعصومين: أن ذكر الله ليس باللسان فحسب، ومن ذلك حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)ي يوصي به علياً قائ: «ثَلاَثٌ لاَ تُطِيقُهَا هذِهِ الأُمَّةُ: الْمُوَاسَاةٌ لِلأَخِ فِي مَالِهِ، وَإِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِهِ، وَذِكْرُ اللهِ عَلَى حَالِ، وَلَيْسَ هُوَ سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ وَلاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ واللهُ أَكْبَرُ، وَلَكِنْ إِذَا وَرَدَ على مَا يَحْرُمُ عَلَيْه خَافَ اللهَ تَعَالى عِنْدَهُ وَتَرَكَهُ»(440).
على أية حال، لا ينبغي أن نغفل عن الروعة في هذا الإقتران ... الله سبحانه على عظمته وجلاله وجبروته يقرن ذكره بذكر عبده الضعيف المحدود الصغير، إنه تكريم ما بعده تكريم للإنسان.

* * *

نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 23
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست