responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 22

الجزء الثاني


مِنَ


القُرآن الكريم


منَ الآية مَائة وَاثنَتَيْنِ وَأَرْبَعينَ


إلى الآية مَائة وَسَبْع وَثَمَانِينَ مِن


سورة البقرة


الآية



سَيَقُولُ السَّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَاوَلَّـهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَط مُسْتَقِيم__

التّفسير


تغيير القبلة
هذه الآية وآيات تالية تتحدث عن حادث مهم من حوادث التاريخ الإِسلامي، كان له آثاره الكبيرة في المجتمع آنذاك.
رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) صلّى صوب ( بيت المقدس) بأمر ربّه مدّة ثلاثة عشر عاماً بعد البعثة في مكة، وبضعة أشهر في المدينة بعد الهجرة. ثم تغيّرت القبلة، وأمر الله المسلمين أن يصلّوا تجاه (الكعبة).
واختلف المفسرون في المدّة التي صلّى خلالها المسلمون بعد الهجرة تجاه بيت المقدس، فذكروا مدداً مختلفة تتراوح بين سبعة أشهر وسبعة عشر شهراً.
كانت الجماعة المسلمة تتعرض خلال كل هذه المدّة (مدة صلاة المسلمين تجاه بيت المقدس) إلى لوم اليهود وتقريعهم، وكان اليهود يقولون عن المسلمين: إن هؤلاء غير مستقلين لأنّهم يصلون تجاه قبلتنا، وهذا دليل أننا على حقّ.
كانت هذه الأقوال تؤلم الرّسول وصحبه، فالأمر الإِلهي يوجب أن يصلوا تجاه بيت المقدس، واليهود لا ينفكّون يرشقون المسلمين بوابل تهمهم وتقريعهم. وبلغ الأمر أن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بدأ يقلب وجهه في السماء انتظاراً للوحي.
واستمر الإِنتظار مدّة، حتى نزل الوحي يأمر بتغيير القبلة، كان الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)في مسجد «بني سالم» يصلي الظهر، فما إن أتمّ ركعتين حتى أمر جبرائيل أن يأخذ بعضد الرّسول ويدير وجهه تجاه الكعبة(425).
لم يكفّ اليهود بعد هذا التغيير عن اعتراضاتهم، بل واصلوا حربهم الإِعلامية بشكل آخر، بدأوا يلقون التشكيكات بشأن هذا التغيير، والقرآن الكريم يتحدث عن هذه الإِعتراضات: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا).
بدأوا يرددون: لو كانت القبلة الاُولى هي الصحيحة فَلِمَ هذا التغيير؟ وإن كانت الثانية صحيحة فلماذا صلى المسلمون أكثر من ثلاثة عشر عاماً تجاه بيت المقدس؟!
والله سبحانه يجيب على هذا الإعتراض، فأمر رسوله أن (قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِراط مُسْتَقِيم).
فليس لمكان قداسة ذاتية، إنما يكتسب قداسته بإذن الله، وكل مكان ملك لله، والمهم هو الطاعة والإستسلام لربّ العالمين.
تغيير القبلة في الواقع مرحلة من مراحل الإختبار الإِلهي، وكل مرحلة خطوة على الصراط المستقيم نحو الهداية الإِلهية.

* * *


بحوث


1 ـ «السفهاء» جمع «سفيه» أطلقت في الأصل على من خفّت حركة جسمه، وقيل: زمام سفيه، أي كثير الإضطراب خفيف الوزن. ثم استعملت الكلمة في خفة النفس لنقصان العقل في الأُمور الدينية والدنيوية.
2 ـ ذكرنا أن مسألة «النسخ» في الأحكام وتغيير المنهج التربوي بتغير المراحل الزمانية ليست مسألة غريبة جديدة في تاريخ الرسالات. لكن هؤلاء القوم العنودين الجدليين من اليهود اتخذوا من هذا التغيير ذريعة لإِعلامهم المضاد، والقرآن يجيبهم بشكل يفحمهم.
3 ـ جملة (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) لا تعني كما ذكرنا أن هداية الله ليس لها حساب، لأن المشيئة الإلهية تنطلق من «حكمة» الله، ومن محاسبات المصالح والمفاسد.

* * *


الآية


وَكَذَلِكَ جَعَلْنَـكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إيمَـنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرءُوفٌ رَّحِيمٌ__

التّفسير


الاُمّة الوسط
يهذه الآية تشير إلى جانب من أسباب تغيير القبلة، تقول أوّ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي كما جعلنا القبلة وسطا، كذلك جعلناكم أُمّة في حالة اعتدال، لا يشوبها إفراط ولا تفريط في كل جوانب حياتها.
أما سبب كون قبلة المسلمين قبلة وسطاً، فلأن النصارى ـ الذين يعيش معظمهم في غرب الكرة الأرضية ـ يولون وجوههم صوب الشرق تقريباً حين يتجهون إلى قبلتهم في بيت المقدس حيث مسقط رأس السيد المسيح. واليهود ـ الذين يتواجدون غالباً في الشامات وبابل ـ يتجهون نحو الغرب تقريباً حين يقفون تجاه بيت المقدس.
أما «الكعبة» فكانت بالنسبة للمسلمين في المدينة تجاه الجنوب، وبين المشرق والمغرب، وفي خط وسط.
وهذا ما يُفهم من عبارة «وَكَذلِك»، وإن كان للمفسرين آراء اُخرى في هذه العبارة لا تخلو من مناقشة.
القرآن يؤكد أن المنهج الإِسلامي في كل أبعاده ـ لا في بعد القبلة فقط ـ يقوم على أساس التوازن والإعتدال.
والهدف من ذلك (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيِداً).
و«شهادة» الاُمّة المسلمة على النّاس، و«شهادة» النّبي على المسلمين، قد تكون إشارة إلى الأُسوة والقُدْوَةِ، لأن الشاهد يُنتخب من بين أزكى النّاس وأمثلهم.
فيكون معنى هذا التعبير القرآني أن الاُمّة المسلمة نموذجيّة بما عندها من عقيدة ومنهج، كما أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فرد نموذجيّ بين أبناء الاُمّة.
الاُمّة المسلمة بعملها وبتطبيقها المنهج الإسلامي تشهد أن الإنسان بمقدوره أن يكون رجل دين ورجل دنيا ... أن يكون إنساناً يعيش في خضم الأحداث الإِجتماعية وفق معايير روحية ومعنوية. الاُمّة المسلمة بمعتقداتها ومناهجها يتشهد بعدم وجود أي تناقض بين الدين والعلم، بل إن ك منهما يخدم الآخر.
ثم تشير الآية إلى واحد آخر من أسرار تغيير القبلة فتقول: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ).
الآية لم تقل: يتبعك، بل قالت: (يَتَّبعُ الرَّسُولَ) إشارة إلى أن هذا الإِتباع إنما هو تسليم لأمر الله، وكل اعتراض إنما هو عصيان وتمرد على الله، ولا يصدر ذلك إلاّ عن مشرك جاهلي.
وعبارة (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) تعني في الأصل الرجوع على مؤخر الرجل، وتعني هنا الإنتكاس والتراجع.
ثم تضيف الآية: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله).
لولا الهداية الإلهية، لما وجدت في نفس الإنسان روح التسليم المطلق أمام أوامر الله. المهم أن يكون الإنسان المسلم مستسلماً إلى درجة لا يحسّ معها بثقل مثل هذه الأوامر، بل يشعر بلذتها وحلاوتها.
وأمام وسوسة الأعداء المضللين والأصدقاء الجاهلين، الذين راحوا يشككون في صحة ما سبق من العبادات قبل تغيير القبلة، تقول الآية: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).
فأوامر الله مثل وصفات الطبيب لكل مرحلة من مراحل العلاج نسخة خاصة، وكلها شافية وافية تضمن سعادة الإنسان وسلامته، والعمل بأجمعها صحيح لا غبار عليه.

* * *

بحوث


1 ـ أسرار تغيير القبلة
تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة أثار لدى الجميع تساؤلات عديدة، أولئك الذين قالوا إن الأحكام ينبغي أن تبقى ثابتة راحوا يتساءلون عن سبب هذا التغيير، فلو كانت القبلة الصحيحة هي الكعبة، فلماذا لم يؤمر المسلمون بالصلاة نحوها منذ البدء، وإن كانت بيت المقدس فلِمَ هذا التغيير؟!
وأعداء الإسلام وجدوا الفرصة سانحة لبث سمومهم ولإعلامهم المضّاد. يقالوا إن تغيير القبلة تمّ بدافع عنصري، وزعموا أن النّبي اتجه أوّ إلى قبلة الأنبياء السابقين، ثم عاد إلى قبلة قومه بعد تحقيق انتصاراته! وقالوا: إن محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) أراد استعطاف أهل الكتاب بانتخابه بيت المقدس قبلة له، ولما يئس منهم استبدل الكعبة بها.
واضح مدى القلق والاضطراب الذي تتركه هذه الوساوس على مجتمع لم يتغلغل نور العلم والإيمان في كل زواياه، ولم يتخلص بعد تماماً من رواسب الشرك والعصبية.
لذلك تصرّح الآية أعلاه أن تغيير القبلة إختبار كبير لتمييز المؤمنين من المشركين.
لا نستبعد أن يكون أحد أسباب تغيير القبلة مايلي:
لما كانت الكعبة في بداية البعثة المباركة بيتاً لأصنام المشركين، فقد أُمر المسلمون مؤقتاً بالصلاة تجاه بيت المقدس، ليتحقّق الإنفصال التام بين الجبهة الإسلامية وجبهة المشركين.
وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإِسلامية والمجتمع الإِسلامي، حدث الإِنفصال الكامل بين الجبهتين، ولم تعد هناك ضرورة لاستمرار وضع القبلة، حينئذ عاد المسلمون إلى الكعبة أقدم قاعدة توحيدية، وأعرق مركز للأنبياء.
ومن الطبيعي أن يستثقل الصلاة نحو بيت المقدس لأولئك الذين كانوا يعتبرون الكعبة الرصيد المعنوي لقوميتهم، وأن يستثقلوا أيضاً العودة إلى الكعبة بعد أن اعتادوا على قبلتهم الاُولى (بيت المقدس).
المسلمون بهذا التحوّل وُضعوا في بوتقة الإختبار، لتخليصهم ممّا علّق في نفوسهم من آثار الشرك، ولتنقطع كل انشداداتهم بماضيهم المشرك، ولتنمو في وجودهم روح التسليم المطلق أمام أوامر الله سبحانه.
إن الله سبحان ليس له مكان ومحل ـ كما ذكرنا ـ والقبلة رمز لوحدة صفوف المسلمين ولإحياء ذكريات خط التوحيد، وتغييرها لا يغيّر شيئاً، المهم هو الإِستسلام الكامل أمام الله، وكسر أوثان التعصب واللجاج والأنانية في النفوس.
2 ـ الاُمّة الوسط

«الوسط» ما توسط بين شيئين، وبمعنى الجميل والشريف، والمعنيان يعودان ظاهراً إلى حقيقة واحدة لأن الجمال والشرف فيما اعتدل وابتعد عن الإفراط والتفريط.
ما أجمل التعبير القرآني عن الاُمّة المسلمة ... الاُمّة الوسط.
الوسط: المعتدلة في «العقيدة» لا تسلك طريق «الغلو» ولا طريق «التقصير والشرك»، لا تنحو منحى «الجبر» ولا «التفويض»، ولا تؤمن «بالتشبيه» في صفات الله ولا «بالتعطيل».
معتدلة في «القيم المادية والمعنوية» لا تغطّ في عالم المادة وتنسى المعنويات، ولا تغرق في المعنويات وتتناسى الماديات. ليست كمعظم اليهود لا يفهمون سوى المادة، وليست كرهبان النصارى يتركون الدنيا تماماً.
معتدلة في «الجانب العلمي» ... لا ترفض الحقائق العلمية، ولا تقبل كل نعرة ترتفع باسم العلم.
معتدلة في «الرّوابط الإجتماعية» لا تضرب حولها حصاراً يعزلها عن العالم، ولا تفقد استقلالها وتذوب في هذه الكتلة أو تلك، كما نرى الذائبين في الشرق والغرب اليوم!
معتدلة في «الجانب الأخلاقي» ... في عباداتها ... في تفكيرها ... وفي جميع أبعاد حياتها.
المسلم الحقيقي لا يمكن إطلاقاً أن يكون إنساناً ذا بعد واحد، بل هو إنسان ذو أبعاد مختلفة ... مفكر، مؤمن، عادل، مجاهد، مكافح، شجاع، عطوف، واع، فعّال، ذو سماح.
عبارة الاُمّة الوسط توضّح من جانب مسألة شهادة الاُمّة الإسلامية، لأن من يقف على خطّ الوسط يستطيع أن يشهد كل الخطوط الإِنحرافية المتجهة نحو اليمين واليسار.
ومن جانب آخر تحمل العبارة دليلها وتقول: «اِنَّمَا كُنْتُمْ شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ لأنَّكُمْ معتدلون وأنكم أمة وَسَط»(426).
3 ـ الاُمّة الشاهدة

لواجتمعت الصفات التي ذكرناها للأُمّة الوسط في أُمّة، فهذه الاُمّة دون شك رائدة للحق، وشاهدة على الحقيقة، لأن مناهجها تشكل الميزان والمعيار لتمييز الحق عن الباطل.
ورد عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) قولهم: «نَحْنُ الاُمّة الْوُسْطى، وَنَحْنُ شُهَدَاءُ اللهِ عَلى خَلْقِهِ وَجُجَجُهُ فِي أَرْضِهِ ... نَحْنُ الشُّهَداءُ عَلَى النَّاسِ ... إلَيْنَا يَرْجِعُ الغَالي وَبِنَا يَْرجِعُ الْمُقَصّرُ»(427) مثل هذه الروايات ـ كما ذكرنا ـ لا تحدد المفهوم الواسع للآية، بل تبين يالمصداق الأمثل للأُمّة الوسط، وتعطي نموذجاً متكام لها.
4 ـ علم الله

عبارة (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبعُ الرَّسُولَ ...) وأمثالها من التعبيرات القرآنية،لا تعني أن الله لم يكن يعلم شيئاً، ثم علم به بعد ذلك، بل تعني تحقّق هذه الواقعيات.
بعبارة أوضح، الله سبحانه يعلم منذ الأزل بكل الحوادث والموجودات، وإن ظهرت بالتدريج على مسرح الوجود. فحدوث الموجودات والأحداث لا يزيد الله علماً، بل إن هذا الحدوث تحقّق لما كان في علم الله. وهذا يشبه علم المهندس بكل تفاصيل البناء عند وضعه التصميم. ثم يتحول التصميم إلى بناء عملي. والمهندس يقول حين ينفّذ تصميمه على الأرض: أريد أن أرى عملياً ما كان في علمي نظرياً. (علم الله يختلف دون شك عن علم البشر اختلافاً كبيراً كما ذكرنا ذلك في بحث صفات الله، وإنما ذكرنا هذا المثال للتوضيح).
عبارة (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) توضح حقيقة الصعوبة في مخالفة العادة الجارية، وفي التخلص من سيطرة العواطف غير الصحيحة، إلاّ على الذين آمنوا بالله حقّاً، واستسلموا لأوامره.

* * *


الآية


قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَاكُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَـفِل عَمَّا يَعْمَلُونَ__

التّفسير


كل الوجوه شطر الكعبة
ذكرنا أن بيت المقدس كان القبلة الاُولى المؤقتة للمسلمين. والرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)كان ينتظر الأمر الإلهي بتغيير القبلة، خاصة وأن اليهود استغلّوا مسألة اشتراك المسلمين معهم في القبلة، ليوجهوا سهام إعلامهم المضاد للمجموعة المسلمة، مرددين أن المسلمين لا استقلال لهم، وأنهم لا يعرفون معنى القبلة وإنما اقتبسوه منّا، وأن قبولهم قبلتنا يعني اعترافهم بديننا! وأمثال هذه الأقاويل.
الآية تشير إلى هذه المسألة وتقول:
(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
ذكرت الرواية ـ كما أشرنا من قبل - أن هذا الأمر الإلهي نزل في لحظة حساسة ملفتة للأنظار، حين كان الرّسول والمسلمون يؤدون صلاة الظهر. فأخذ جبرائيل بذراع الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأدار وجهه نحو الكعبة. وتذكر الرواية أن صفوف المسلمين تغيّرت على أثر ذلك، وترك النساء مكانهنّ للرجال وبالعكس. (كان اتجاه بيت المقدس نحو الشمال تقريباً، بينما كان اتجاه الكعبة نحو الجنوب).
من المفيد أن نذكر أنّ تغيير القبلة من علامات نبي الإسلام المذكورة في الكتب السابقة. فقد كان أهل الكتاب على علم بأن النّبي المبعوث «يصلّي إلى القبلتين».
لذلك تضيف الآية: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهمْ).
أضف إلى ذلك أن دلائل نبوّة رسول الإسلام، تحرره من التأثر بعادات بيئته الإجتماعية، وتركه الكعبة التي كانت موضع تقديس العرب، واتجاهه نحو قبلة أقلية محدودة.
ثم تقول الآية: (وَمَا اللهُ بِغَافِل عَمَّا يَعْمَلُونَ).
فهؤلاء الذين يكتمون ما جاء في كتبهم بشأن تغيير قبلة نبي الإسلام، يويستغلون هذه الحادثة لإِثارة ضجة بوجه المسلمين، بدل أن يتخذوها دلي على صدق دعوى النّبي، سيلاقون جزاء أعمالهم، والله ليس بغافل عن أعمالهم ونياتهم.

* * *


بحوث


1 ـ نظم الآيات
محتوى هذه الآية يبيّن بوضوح أنها نزلت قبل الآية التي سبقتها في الترتيب القرآني. ذلك لأن القرآن لم تجمع آياته حسب نزوله، بل كان ترتيب الآيات يتم استناداً إلى مناسبات معينة بتعيين من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبأمر من الباري سبحانه. ي(ومن تلك المناسبات مث رعاية الأولوية وأهمية الموضوعات).
2 ـ انتظار صعب!

يستفاد من هذه الآية أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مرتبطاً بالكعبة إرتباطاً خاصاً، ومنتظراً لأمر تغيير القبلة، ولعلنا نستطيع أن نتلمس سبب ذلك في إرتباط النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بإبراهيم(عليه السلام)، أضف إلى ذلك أن الكعبة أقدم قاعدة توحيدية، وأنه(صلى الله عليه وآله وسلم)كان يعلم بوقوع هذا التغيير، وكان يترقب حدوثه.
وهنا تبرز ظاهرة الإستسلام المطلق للرسول، حيث لم يتردد على لسانه طلب بهذا الشأن، بل كان يقلب طرفه في السماء منتظراً بتلهّف نزول الوحي.
وتعبير «السماء» في الآية قد يشير إلى انتظاره هبوط «جبرائيل» من الأعلى، وإلاّ فالله لا مكان له، وهكذا وحيه المرسل.
3 ـ معنى الشطر

يثير الإلتفات أن الآية لم تأمر المسلمين أن يصلوا تجاه الكعبة، بل «شطر المسجد الحرام».
لعل ذلك يعود إلى صعوبة بل تعذّر محاذاة الكعبة على المصلين البعيدين عن الكعبة. لذلك ذكر المسجد الحرام بدل الكعبة لأنه أوسع، ثم كلمة «شطر» تعني يالسمت والجانب، وبذلك كان الإتجاه شطر المسجد الحرام عم ميسوراً للجميع، وخاصة لصفوف الجماعة الطويلة التي يزيد طولها غالباً على طول الكعبة.
بديهي أن المحاذاة الدقيقة للكعبة ـ وحتى للمسجد الحرام ـ عمل صعب على المصلين البعيدين، لكن الوقوف شطره يخلو من كل صعوبة(428).   4 ـ خطاب عام

كل خطابات القرآن هي دون شك ـ شاملة لكل المسلمين ـ وإن اتجهت إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (اللهم إلاّ في مواضع دل الدليل على أنّها خاصّة بالنّبي)، من هنا يطرح سؤال بشأن سبب اتّجاه الآية الّتي نحن بصددها في الخطاب إلى النّبي تارة تأمره أن يصلي شطر المسجد الحرام، وتارة اُخرى إلى عامة المسلمين.
هذا التكرار قد يعود إلى أنّ تغيير القبلة مسألة مثيرة حساسة، ومن الممكن أن تؤدي الضجة التي تثيرها هذه المسألة إلى اضطراب بين المسلمين، وقد يتذرع بعض في وسط هذه الضجة بأن الخطاب «فولّ وجهك» موجه إلى النّبي خاصة، فلا يصلي تجاه الكعبة. لذلك خاطبت الآية الرّسول مرة وعامة المسلمين مرّة اُخرى لتؤكد أن هذا التغيير غير خاص بالرّسول، بل يشمل عامّة المسلمين أيضاً.
5 ـ هل الهدف من هذا التغيير تحقيق رضى النّبي؟

عبارة «قِبْلَةً تَرْضَاهَا» قد توهم أن هذا التغيير تم إرضاءً للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويزول هذا التوهم لو علمنا أن بيت المقدس كان قبلة مؤقتة، وأن النّبي كان ينتظر القبلة النهائية، وبصدور أمر التغيير وضع حد لطعن اليهود من جهة، وتوفرت أرضية استمالة أهل الحجاز المرتبطين إرتباطاً خاصاً بالكعبة نحو الإِسلام من جهة اُخرى، كما أن إعلان بيت المقدس كقبلة اولى أزال عن الإسلام الطابع القومي، وأسقط إعتبار الأصنام المتواجدة في الكعبة.   6 ـ الكعبة مركز دائرة كبرى

لو نظر شخص من خارج الكرة الأرضية إلى المصلين المسلمين لرأى دوائر متعددّة بعضها داخل بعض وتضيق بالتدريج لتصل إلى المركز الأصلي المتمثل بالكعبة. وهذه الصورة توضح محورية ومركزية بيت الله الحرام. وهذه ظاهرة متميزة في الإسلام دون سواه من الأديان.
جدير بالذكر أن ضرورة اتجاه المسلمين شطر المسجد الحرام كان باعثاً على تطور علم الهيئة وعلم الجغرافيا والفلك عند المسلمين بسرعة مدهشة خلال العصور الإسلامية الاُولى، لأن معرفة جهة القبلة في مختلف بقاع الارض ما كانت متيسّرة من دون معرفة بهذه العلوم.

* * *

نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 22
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست