responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 17

بحوث


1 ـ قصّة هاروت وماروت
كثر الحديث بين أصحاب القصص والأساطير عن هذين الملكين، واختلطت الخرافة بالحقيقة بشأنهما، حتى ما عاد بالإِمكان استخلاص الحقائق مما كتب بشأن هذه الحادثة التاريخية، ويظهر أن أصح ما قيل بهذا الشأن وأقربه إلى الموازين العقلية والتاريخية والاحاديث الشريفة هو مايلي:
شاع السحر في أرض بابل وأدّى إلى إحراج النّاس وازعاجهم، فبعث الله ملكين بصورة البشر، وأمرهما أن يعلما النّاس طريقة إحباط مفعول السحر، ليتخلصوا من شرّ السحرة.
كان الملكان مضطرين لتعليم النّاس اُصول السحر، باعتبارها مقدمة لتعليم طريقة إحباط السحر. واستغلت مجموعة هذه الاُصول، فانخرطت في زمرة الساحرينِ، وأصبحت مصدر أذى للناس.
الملكان حذرا النّاس ـ حين التعليم ـ من الوقوع في الفتنة، ومن السقوط في حضيض الكفر بعد التعلم، لكن هذا التحذير لم يؤثّر في مجموعة منهم(358).
وهذا الذي ذكرناه ينسجم مع العقل والمنطق، وتؤيده أحاديث أئمّة آل البيت(عليهم السلام)منها ما ورد في كتاب عيون أخبار الرضا (وقد أورده في أحد طرقه عن الإمام الرضا(عليه السلام) في طريق آخر عن الامام الحسن العسكرى(عليه السلام))(359).
أمّا ما تتحدث عنه بعض كتب التاريخ ودوائر المعارف بهذا الشأن فمشوب يبالخرافات والأساطير، وبعيد كل البعد عمّا ذكره القرآن، من ذاك مث أن الملكين أرسلا إلى الأرض ليثبت لهما سهولة سقوطهما في الذنب إن كانا مكان البشر، فنزلا وارتكبا أنواع الآثاموالذنوبوالكبائر!!والنص القرآني بعيدعن هذه الأساطير ومنزّه منها.
2 ـ لفظ هاروت وماروت

زعم بعض المحققين أن «هاروت» و«ماروت» لفظان فارسيان قديمان.
وقال: إن كلمة «هوروت» تعني «الخصب»، و«موروت» تعني «عديم الموت» واسما هاروت وماروت مأخوذان، من هذين اللفظين(360). وهذا الإِتجاه في فهم معنى الإِسمين لا يقوم على دليل.
وفي كتاب «آوِستا» وردت ألفاظ مثل: «هرودات» ويعني «شهر خرداد»، وكذلك «أمردات» بمعنى عديم الموت، وهو نفسه اسم «شهر مرداد»(361).
وفي معجم (دهخدا) تفسير للفظين شبيه بما سبق.
والعجيب أن البعض ذهب إلى أن هاروت وماروت من البشر ومن سكنة بابل!، وقيل أيضاً أنّهما من الشياطين!! والآيات المذكورة ترفض ذلك طبعاً.
3 ـ كيف يكون الملك معلماً للإِنسان؟

يبقى السّؤال عن الرابطة بين الملك والإِنسان، وهل يمكن أن تكون بينهما رابطة تعليمية؟ الآيات المذكورة تصرح بأن هاروت وماروت علّما النّاس السحر، وهذا تمّ طبعاً من أجل إحباط سحر السحرة في ذلك المجتمع. فهل يمكن للملك أن يكون معلماً للإِنسان؟
الأحاديث الواردة بشأن الملكين تجيب على هذا السّؤال، وتقول: إن الله بعثهما على شكل البشر، وهذه الحقيقة يمكن فهمها من الآية التاسعة لسورة الأنعام أيضاً، حيث يقول تعالى: (يوَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُ)(362). 4 ـ لا قدرة لأحد على عمل دون إذن الله
نفهم من قول الله في هذه الآيات أن السحرة ما كانوا قادرين على إنزال الضّر بأحد دون إذن الله سبحانه، وليس في الأمر «جبر» ولا إرغام، بل إن هذا المعنى يشير إلى مبدأ أساس في التوحيد، وهو إن كلّ القوى في هذا الكون تنطلق من قدرة الله تعالى، النار إذ تحرق إنما تحرق بإذن الله، والسكين إذ تقطع إنما تقطع بأمر الله. لا يمكن للساحر أن يتدخل في عالم الخليقة خلافاً لإِرادة الله.
كلّ ما نراه من آثار وخواص إنما هي آثار وخواص جعلها الله سبحانه للموجودات المخلتفة، ومن هذه الموجودات من يحسن الإِستفادة من هذه الهبة الإِلهية ومنهم من يسيء الإِستفادة منها. و«الإِختيار» الذي منحه الله للإِنسان إنما هو وسيلة لإِختباره تكامله.
5 ـ السحر وتاريخه

الحديث عن السحر وتاريخه طويل، ونكتفي هنا بالقول إن جذوره ضاربة في أعماق التاريخ، ولكن بداياته وتطوراته التاريخية يلفّها الغموض ولا يمكن تشخيص أول من استعمل السحر.
وبشأن معناه يمكن القول: إنه نوع من الأعمال الخارقة للعادة، تؤثر في وجود الإنسان، وهو أحياناً نوع من المهارة والخفة في الحركة وإيهام للأنظار، كما إنه أحياناً ذو طابع نفسي خيالي.
والسحر في اللغة له معنيان:
1 ـ الخداع والشّعوذة والحركة الماهرة.
2 ـ كل ما لطف ودقّ.
والراغب ذكر للفظ السحر ثلاثة معان قرآنية: الأوّل: الخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعبذ بصرف الأبصار عما يفعله لخفة يده، وما يفعله النمام بقول مزخرف عائق للأسماع. الثّاني: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التقرب إليه. الثّالث: هو اسم لفعل يزعمون أنه من قوّته يغيّر الصور والطبائع فيجعل الإنسان حماراً، ولا حقيقة لذلك(363).
نستنتج من دراسة 51 موضعاً من مواضع ذكر كلمة «سحر» في القرآن الكريم أن السحر ينقسم في رأي القرآن الكريم على قسمين:
1 ـ الخداع والشعبذة وخفة اليد وليس له حقيقة كما جاء في قوله تعالى: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعى)(364) وقوله: (فَلَّمَا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ)(365) ويستفاد من هذه الآيات أن السحر ليس له حقيقة موضوعية حتى يمكنه التأثير في الاشياء، بل هو خفة حركة اليد ونوع من خداع البصر فيظهر ما هو خلاف الواقع.
2 ـ يستفاد من آيات اُخرى أن للسحر أثراً واقعياً، كقوله سبحانه: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)، وقوله: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ)كما مرّ في الآيات التي نحن بصددها.
وهل إن للسحر تأثيراً نفسياً فقط، أم يتعدى ذلك إلى الجسم أيضاً؟ لم تشر الآيات أعلاه إلى ذلك، ويعتقد بعض النّاس أن هذا التأثير نفسي لا غير.
جدير بالذكر أن بعض ألوان السحر كانت تُمارس عن طريق الإِستفادة من خواص المواد الكيمياوية والفيزياوية لخداع النّاس. فيحدثنا التاريخ أن سحرة فرعون وضعوا داخل حبالهم وعصيّهم مادة كيمياوية خاصّة (ولعلها الزئبق)، كانت تتحرك بتأثير حرارة الشمس أو أية حرارة اُخرى، وتوحي للمشاهد أنها حيّة. وهذا اللون من السحر ليس بقليل في عصرنا الرّاهن.
السّحر في رأي الإسلام

أجمعت الفقهاء على حرمة تعلم السحر وممارسته، وجاء عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام): ي«مَنْ تَعَلَّمَ مِنَ السِّحْرِ قَلِي أَوْ كَثِيراً فَقَدْ كَفَرَ وَكَانَ آخِرُ عَهْدِهِ بِرَبِّهِ»(366).
ولكن ـ كما ذكرناه يجوز تعلم السحر لإبطال سحر السحرة، بل يرتفع الجواز أحياناً إلى حد الوجوب الكفائي، لإِحباط كيد الكائدين والحيلولة دون نزول الأذى بالنّاس من قبل المحتالين. دليلنا على ذلك حديث روي عن الإِمام أبي عبد الله جعفر محمّد الصادق(عليه السلام): «كَانَ عِيَسى بْنُ شَقفَى سَاحِراً يَأْتِيهِ النَّاسُ وَيَأْخُذُ عَلى ذَلِكَ الاَْجْرَ فَقَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَنَا رَجُلٌ كَانَتْ صِنَاعَتِي السِّحْرُ وَكُنْتُ آخِذُ عَلَيْهِ الاَْجْرَ وَكَانَ مَعَاشِي وَقَدْ حَجَجْتُ مِنْهُ وَمَنَّ اللهِ عَلَيَّ بِلِقَائِكَ وَقَدْ تُبْتُ إِلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهَلْ لِي فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ مَخْرَجٌ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ حُلَّ وَلاَ تَعْقُدْ»(367).
ويستفاد من هذا الحديث أن تعلّم السحر والعمل به من أجل فتح وحلّ عقد السحر لا إشكال فيه.  السحر في رأي التوراة

أعمال السحر والشّعبذة في كتب العهد القديم (التوراة وملحقاتها) هي أيضاً ذميمة غير جائزة. فالتوراة تقول: «لا تلتفتوا إلى الجان ولا تطلبوا التوابع فتنجسوا بهم وأنا الربّ إلهكم»(368).
وجاء في موضع آخر من التوراة: «والنفس التي تلتفت إلى الجان وإلى التوابع لتزني ورائهم إجعل وجهي ضد تلك النفس واقطعها من شعبها»(369).
ويقول قاموس الكتاب المقدس: «واضح أن السحر لم يكن له وجود في شريعة موسى، بل إن الشريعة شددت كثيراً على أولئك الذين كانوا يستمدون من السحر».
ومن الطريف أن قاموس الكتاب المقدس الذي يؤكد على أن السحر مذموم في شريعة موسى، يصرح بأن اليهود تعلّموا السحر وعملوا به خلافاً لتعاليم التوراة فيقول: «... ولكن مع ذلك تسرّبت هذه المادة الفاسدة بين اليهود، فآمن بها قوم، ولجأوا إليه في وقت الحاجة»(370).
ولذلك ذمهم القرآن، وأدانهم لجشعهم وطمعهم وتهافتهم على متاع الحياة الدنيا.
السحر في عصرنا

توجد في عصرنا مجموعة من العلوم كان السحرة في العصور السالفة يستغلونها للوصول إلى مآربهم.
1 ـ الإِستفادة من الخواص الفيزياوية والكيمياوية للأجسام، كما ورد في قصّة سحرة فرعون واستفادتهم من خواص الزئبق أو أمثاله لتحريك الحبال والعصيّ.
واضح أن الإِستفادة من الخصائص الكيمياوية والفيزياوية للأجسام ليس بالعمل الحرام، بل لابدّ من الإِطلاع على هذه الخصائص لإِستثمار مواهب الطبيعة، لكن المحرم هو استغلام هذه الخواص المجهولة عند عامة النّاس لإِيهام الآخرين وخداعهم وتضليلهم، مثل هذا العمل من مصاديق السحر، (تأمل بدقة).
2 ـ الإِستفادة من التنويم المغناطيسي، والهيبنوتيزم، والمانية تيزم، والتله بآتي (انتقال الأفكار من المسافات البعيدة).
هذه العلوم هي أيضاً إيجابية يمكن الإِستفادة منها بشكل صحيح في كثير من شؤون الحياة. لكن السحرة كانوا يستغلونها للخداع والتضليل.
ولو استخدمت هذه العلوم اليوم أيضاً على هذا الطريق المنحرف فهي من «السحر» المحرّم.
بعبارة موجزة: إن السحر له معنى واسع يشمل كل ما ذكرناه هنا وما أشرنا إليه سابقاً.
ومن الثابت كذلك أن قوة الإِرادة في الإِنسان تنطوي على طاقات عظيمة. وتزداد هذه الطاقات بالرياضات النفسية، ويصل بها الأمر أنها تستطيع أن تؤثر على الموجودات المحيطة بها، وهذا مشهود في قدرة المرتاضين على القيام بأعمال خارقة للعادة نتيجة رياضاتهم النفسية.
جدير بالذكر أن هذه الرياضات تكون مشروعة تارة، وغير مشروعة تارة اُخرى. الرياضات المشروعة تخلق في النفوس الطاهرة قوة إيجابية بناءة، والرياضات غير المشروعة تخلق قوة شيطانية، وقد تكون كلا القوتين قادرتين على القيام بأعمال خارقة للعادة، لكن الاُولى إيجابية بناءة، والاُخرى مخربة هدامة.

* * *


الآيتان



يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلْكَـفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ__ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْر مِّن رَّبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ__

سبب النّزول


روي عن ابن عباس أنه قال: إن الصحابة كانوا يطلبون من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لدى تلاوته الآيات وبيانه الأحكام الإِلهية أن يتمهّل في حديثه حتى يستوعبوا ما يقوله، وحتى يعرضوا عليه أسئلتهم، وكانوا يستعملون لذلك عبارة: «راعنا» أي أمهلنا. واليهود حوّروا معنى هذه الكلمة لتكون من «الرعونة» فتكون راعنا بمعنى اجعلنا رعناء، واتخذوا ذلك وسيلة للسخرية من النّبي والمسلمين.
يالآية تطلب من المسلمين أن يقولوا «انْظُرْنَا» بد من «رَاعِنَا» لسد الطريق أمام طعن الأعداء.
وقال بعض المفسرين: إنّ عبارة «رَاعِنَا» في كلام اليهود سبّة تعني «اسمع ولمّا تسمع»، وكانوا يرددون هذه العبارة مستهزئين!.
العلل المذكورة لنزول الآية الكريمة تناقض، فقد تكون بأجمعها صحيحة. ويخاطبون بذلك النّبي ساخرين(371). وليس بين هذه العلل المذكورة لنزول الآية الكريمة تناقض، فقد تكون بأجمعها صحيحة.

التّفسير


لا توفّروا للأعداء فرصة الطعن:
الآية الكريمة تخاطب المسلمين قائلة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
ممّا سبق من سبب نزول هذه الآية الكريمة نستنتج أنّ على المسلمين أن لا يوفروا للأعداء فرصة الطعن بهم، وأن لا يتيحوا لهم بفعل أو قول ذريعة يسيئون بها إلى الجماعة المسلمة. عليهم أن يتجنبوا حتى ترديد عبارة يستغلها العدوّ لصالحه. الآية تصرّح بالنهي عن قول عبارة تمكن الأعداء أن يستثمروا أحد معانيها لتضعيف معنويات المسلمين، وتأمرهم باستعمال كلمة اُخرى غير تلك الكلمة القابلة للتحريف ولطعن الأعداء.
حين يشدّد الإِسلام إلى هذا الحد في هذه المسألة البسيطة، فإن تكليف المسلمين في المسائل الكبرى واضح، عليهم في مواقفهم من المسائل العالمية أن يسدوا الطريق أمام طعن الأعداء، وأن لا يفتحوا ثغرة ينفذ منها المفسدون الداخليون والأجانب للإِساءة إلى سمعة الإِسلام والمسلمين.
جدير بالذكر أن عبارة راعنا ـ إضافة إلى ما فيها من معنى آخر استغله اليهود ـ فيها نوع من سوء الأدب، لأنّها من باب المفاعلة، وباب المفاعلة يفيد المبادلة والإِشتراك، وهي لذلك تعني: راعنا لنراعيك، وقد نهى القرآن عن ترديدها(372).
الآية التالية تكشف عن حقيقة ما يكنّه مجموعة من أهل الكتاب والمشركين من حقد وعداء للجماعة المؤمنة: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْر مِنْ رَبِّكُمْ)، وسوآء ودّ هؤلاء أم لم يودّوا فرحمة الله لها سنّة إلهية ولا تخضع للميول والأهواء: (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) .
الحاقدون لم يطيقوا أن يروا ما شمل الله المسلمين من فضل ونعمة، وما منّ عليهم من رسالة عظيمة، ولكن فضل الله عظيم.

* * *


بحث


مغزى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)
أكثر من ثمانين موضعاً خاطب الله المسلمين في كتابه الكريم بهذه العبارة، وكل هذه المواضع من القرآن الكريم نزلت في المدينة، ولا وجود لهذه العبارة في الآيات المكية، ولعل ذلك يعود إلى تشكل الجماعة المسلمة في المدينة، وإلى ظهور المجتمع الإِسلامي بعد الهجرة. ولذلك خاطب الله الجماعة المؤمنة بعبارة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).
وهذا الخطاب يتضمن إشارة إلى ميثاق التسليم الذي عقدته الجماعة المسلمة مع ربّها بعد الإيمان به، وهذا الميثاق يفرض على الجماعة الطاعة والإِنصياع لأوامر ربّ العالمين، والإِستجابة لما يأتي بعد هذه العبارة من أحكام.
جدير بالذكر أن كثيراً من المصادر الإِسلامية بما في ذلك مصادر أهل السنة، روت عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «مَا أَنْزَلَ اللهُ آيَةً فِيهَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلاَّ وَعَلِيٌّ رَأْسُهَا وَأَمِيرُهَا»(373).

* * *


الآيتان



مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَة أَوْنُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْر مِّنْهَآ أَومِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ __أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِير__

التّفسير


الغرض من النّسخ
الآية الاُولى تشير أيضاً إلى بعد آخر من أبعاد حملة التشكيك اليهودية ضد المسلمين.
كان هؤلاء القوم يخاطبون المسلمين أحياناً قائلين لهم إن الدين دين اليهود وأن القبلة قبلة اليهود، ولذلك فإن نبيّكم يصلي تجاه قبلتنا (بيت المقدس)، وحينما نزلت الآية 144 من هذه السّورة وتغيّرت بذلك جهة القبلة، من بيت المقدس إلى مكة، غيّر اليهود طريقة تشكيكهم، وقالوا: لو كانت القبلة الاُولى هي الصحيحة، فلم هذا التغيير؟ وإذا كانت القبلة الثانية هي الصحيحة، فكل أعمالكم السابقة ـ إذن ـ باطلة.
القرآن الكريم في هذه الآية يردّ على هذه المزاعم وينير قلوب المؤمنين(374). ويقول: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنسِها نَأْتِ بِخَيْر مِنْهَا أَوْمِثْلِهَا) ... وليس مثل هذا التغيير على الله بعسير (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنْ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ)؟!
الآية التالية تؤكد مفهوم قدرة الله سبحانه وتعالى وحاكميته في السماوات والأرض وفي الأحكام، فهو البصير بمصالح عباده: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ)، وفي هذه العبارة من الآية أيضاً تثبيت لقلوب المؤمنين، كي لاتتزلزل أمام حملات التشكيك هذه، وتستمر الآية في تعميق هذا التثبيت، مؤكدة أن المجموعة المؤمنة ينبغي أن تعتمد على الله وحده، وتستند إلى قوته وقدرته دون سواه، فليس في هذا الكون سند حقيقي سوى الله سبحانه: (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَليٍّ وَلاَ نَصِير).

* * *


بحوث


1 ـ هل يجوز النّسخ في الأحكام؟
النسخ في اللغة الإِزالة، وفي الإِصطلاح تغيير حكم شرعي واحلال حكم آخر محله، من ذلك:
1 ـ المسلمون كانوا يصلون بعد الهجرة تجاه بيت المقدس، واستمروا على ذلك ستة عشر شهراً، ثم نزل الأمر بتغيير القبلة، فوجب على المسلمين أن يصلوا تجاه الكعبة.
2 ـ الآية 15 من سورة النساء قررت معاقبة الزانية بعد شهادة أربعة شهود يبإمساكها في البيت حتى الوفاة، أو يجعل الله لها سبي، والآية الثانية من سورة النور نسخت الآية المذكورة وبدّلت الحكم بمائة جلدة.
وهنا يطرح سؤال معروف بشأن سبب النسخ يقول: لو كان في الحكم مصلحة فلماذا نُسخ؟ وإن لم يكن كذلك فلماذا شُرع ؟ لماذا لم تطرح الشريعة منذ البداية حكماً غير قابل للنسخ؟
علماء الإِسلام أجابوا منذ القديم على هذا السؤال، وتقرير هذا الجواب باختصار كما يلي:
نعلم أن بعض احتياجات الإِنسان ثابتة لا تقبل التغيير، لأنها ترتبط بفطرة الإِنسان وطبيعته، وبعضها الآخر تتغير بتغير الزمان وظروف البيئة، وهذه المتغيرات قد تضمن سعادة الإِنسان في زمن معين، لكنها تصبح عقبة أمام تقدم الفرد في زمان آخر.
قد يكون نوع من الدواء نافعاً للمريض في ظرف زمني معين، وقد لا يكون نافعاً ـ بل ضاراً ـ في مرحلة نقاهة المريض، لذلك يأمر الطبيب بدواء في وقت، ثم يأمر بقطعه والإِمتناع عن تناوله في وقت آخر.
قد يكون درس معين مفيداً للطالب في مرحلة دراسية معينة، لكن هذا الدرس يصبح عديم الفائدة في المراحل الدراسة التالية. المنهج التعليمي الصحيح ينبغي أن ينظم الدروس بشكل يتناسب مع حاجة الطالب في كل مرحلة من مراحله الدراسية.
هذه المسألة تتضح أكثر في إطار القانون اللازم لتكامل الإِنسان والمجتمع الإِنساني، هذا القانون لابدّ أن يتضمن متغيرات كي يكون المنهج التكاملي مفيداً لكل مراحل مسيرة المجتمع. وتزداد أهمية هذه التغييرات عند اندلاع الثورات الإِجتماعية والعقائدية، وتزداد ضرورة مواكبة متطلبات التغيير في كل مرحلة من مراحل الثورة.
لابدّ من التأكيد أنّ اُصول الأحكام الإِلهية ثابتة لا يعتريها التغيير، فالتوحيد والعدالة الإِجتماعية وسائر الاُصول والمبادىء المشابهة ثابتة لا تتغير، وإنما يطرأ التغيير على المسائل الفرعية والثانوية.
ومن الضروري أن نؤكد أيضاً أن تكامل الدين قد يبلغ مرحلة يصبح فيها (الدين الخاتم)، وتصبح جميع أحكامه ثابتة لا تقبل التغيير (سنشرح مسألة خاتمية الرسالة في تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب).
اليهود، مع اعتراضهم على المسلمين بشأن نسخ حكم القبلة الاُولى، أقرّوا النسخ في الاحكام الإِلهيّة، واستناداً إلى ما جاء في مصادرهم الدينية.
يتذكر التوراة أن كل الحيوانات كانت ح لنوح(عليه السلام) حين نزل من سفينته، لكن هذا الحكم نُسخ في شريعة موسى، وحرّم قسم من الحيوانات(375).
2 ـ المقصود من الآية

الآية في اللغة العلامة، وفي القرآن لها معان متعددة:
1 ـ مقاطع من القرآن، مفصولة عن بعضها بعلائم خاصة، وهذا المعنى للآية نجده في قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ)(376).
2 ـ المعجزة سميت في القرآن آية كقوله سبحانه: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوء آيَةً أُخْرى)(377).
3 ـ الدليل على وجود الله أو المعاد كقوله: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ)(378)وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أنَّكَ تَرَى الاَْرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَُمحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ)(379).
4 ـ الأشياء البارزة الملفتة للأنظار كالأبنية الشاهقة، كما في قوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيع آيَةً تَعْبَثُونَ)(380).
والمعنى المشترك بين كل هذه المعاني هو «العلامة».
وقوله سبحانه: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَة ...) يشير إلى نسخ الأحكام، فالحكم النّاسخ خير من المنسوخ أو مثله، أو إنه يشير إلى نسخ معجزة الأنبياء، فيكون المعنى أن معجزة النّبي التالي أفصح وأوضح من معجزة النّبي السابق.
ثمّة روايات في تفسير هذه الآية ذكرت أن المقصود من نسخ الآية هو وفاة الإِمام ومجيء الإِمام التالي بعده، وهذا طبعاً بيان مصداق من مصاديق الآية، لا تحديداً لمفهومها.
3 ـ تفسير عبارة «ننسها»

جملة «نُنْسِهَا» في الآية معطوفة على جملة «نَنْسَخْ» وهي من مادة «أنساء» بمعنى التأخير أو الحذف من الأذهان(381).
فما هو معنى هذه العبارة في الآية الكريمة؟
المقصود من العبارة هو: ما ننسخ من آية أو نؤخر نسخها استناداً إلى مصالح معينة ... نأت بخير منها أو مثلها ... .
فعبارة «نَنْسَخْ» تشير إلى النسخ على المدى القصير، وعبارة «نُنْسِهَا»النسخ على المدى البعيد، (لاحظ بدقّة).
ثمّة احتمالات اُخرى ذكرت في هذا المجال لا تبلغ أهميتها ما ذكرناه.
4 ـ تفسير (أو مِثْلِهَا)

سؤال آخر يطرح في هذا المجال بشأن عبارة «أو مِثْلِهَا» فلو كان الحكم النّاسخ مثل الحكم المنسوخ فلا فائدة من هذا التغيير، النسخ تظهر فائدته حين يكون النّاسخ خيراً من المنسوخ.
والجواب على ذلك هو أن الآية النّاسخة لها آثار في زمانها كتلك الآثار التي كانت الآية المنسوخة في زمانها.
بعبارة أوضح: قد يكون لحكم اليوم فوائد معينة، لكن هذه الفوائد لا تظهر لهذا الحكم غداً، ولابدّ أن ينسخ هذا الحكم بحكم آخر تكون له في زمن لاحق ـ على الأقل ـ نفس الفوائد التي كانت للمنسوخ في زمن سابق.

* * *


الآية



أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالاِْيمَـنِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ__

سبب النّزول


تعددت الآراء في كتب التّفسير حول سبب نزول هذه الآية الشريفة، إلاّ أنها متقاربة في المضمون والنتيجة.
فقد نقل عن ابن عباس أنه: جاء وهب بن زيد، ورافع بن حرملة إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالا: إئتِ لنا بكتاب من الله مرسل إلينا نقرأه لكي نؤمن بك، أو إجر الانهار لنا حتى نتبعك!
وقال بعض آخر: إنّ جماعة من الاعراب جاءوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه ما طلب بنو إسرائيل من موسى، فقالوا: أرنا الله جهرة.
وقال آخرون: إنهم طلبوا من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجعل لهم صنماً من شجرة خاصة (ذات أنواط) ليعبدوه كما قال بنو إسرائيل لموسى: (إجعل لَنا إلهاً كَمَا لَهُم آلهة). والآية أعلاه نزلت جواباً لهؤلاء.

التّفسير


حُجج واهية
هذا الآية الكريمة، وإن كانت تخاطب مجموعة من المسلمين ضعاف الإيمان أو المشركين إلاّ أنّها ترتبط أيضاً بمواقف اليهود.
لعل هذا السؤال وجه إلى الرّسول بعد تغيير القبلة، وبعد حملات التشكيك التي شنها اليهود بين المسلمين وغير المسلمين، والله سبحانه في هذه الآية الكريمة نهى عن توجيه مثل هذه الأسئلة السخيفة (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ)؟!
مثل هذا العمل إعراض عن الإيمان واتجاه نحو الكفر، ولذلك قالت الآية: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالاِْيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).
الإِسلام طبعاً لا يمنع طرح الأسئلة العلمية والمنطقية، ولا يحول دون طلب المعجزة من أجل اثبات صحة الدعوة، لأن مثل هذه الأسئلة والطلبات هي طريق الإِدراك والفهم والإِيمان. وهذه الآية الكريمة تشير إلى اُولئك الذين يتذرعون بمختلف الحجج الواهية كي يتخلصوا من حمل أعباء الرسالة.
هؤلاء كانوا قد شاهدوا من الرّسول معاجز كافية لإِيمانهم بالدعوة وصاحبها، لكنهم يتقدمون إلى النّبي بطلب معاجز اقتراحية اُخرى!
المعجزة ليست اُلعوبة بيد هذا وذاك كي تحدث وفق الميول والإِقتراحات والمشتهيات، بل إنها ضرورة لازمة للإطمئنان من صدق أقوال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وليست مهمّة النّبي صنع المعاجز لكل من تهوى نفسه معجزة.
ثم هناك من الأسئلة ما هو بعيد عن العقل والمنطق، كرؤية الله جهرة، وكطلب اتخاذ الصنم.
القرآن الكريم ينبه في هذه الآية بأن المجموعة البشرية التي لا تسلك طريق العقل والمنطق في اسئلتها ومطالبتها، سينزل بها ما نزل بقوم موسى.

* * *

نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 17
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست