responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 16

بحثان


1 ـ عبارة (قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) ليست حكاية عمّا قالوه بألسنتهم، بل حسب الظاهر هي تعبير عن واقع عملي لهؤلاء القوم، وكناية رائعة عن إنحرافهم.
2 ـ عبارة (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) هي أيضاً كناية رائعة تعبّر عن وضع هذه الجماعة.
والاشراب له معنيان كما ورد في المفردات: الإحكام كقولك «أشربت البعير» إذا شددت رقبته بالحبل. وكذلك الإرواء، ويكون المعنى على الوجهين أن حبّ العجل قد غمر قلوب بني إسرائيل واستحكم في أنفسهم.
والعبارة توحي أيضاً ما يصدر عن هؤلاء القوم من إنحراف، إنما هو ظاهرة طبيعية ناتجة عن تغلغل روح الشرك في قلوبهم. والقلوب التي أُشربت الشرك لا يصدر عنها إلا القتل والإنكار والخيانة.
وتتبين أهمية الموضوع أكثر لو طالعنا مقدار ما أكدت عليه الديانة اليهودية من تقبيح لعملية القتل ونهي عنها فقد جاء في قاموس الكتاب المقدس، ص 678: «القتل العمدي وتقبيحه كان على درجة من الأهمية لدى بني إسرائيل، بحيث لا تبرأ ذمّة القاتل له لولجأ إلى الأماكن المقدسة، بل لابدّ إنزال عقوبة القصاص به بأيّ حال من الأحوال».
هذا هو معنى قتل الإنسان في نظر التوراة، فما بالك بقتل الأنبياء؟

* * *


الآيات



قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاَْخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ__ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدَا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّلِمِينَ__ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوة وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّأحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ ألْفَ سَنَة وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ__

التّفسير


فئة مغرورة:
يبدو من تاريخ اليهود ـ مضافاً لما أخبر القرآن عنه ـ أن هؤلاء القوم كانوا يعتبرون أنفسهم فئة متميزة في العنصر، ومتفوقة على سائر الأجناس البشرية، وكانوا يعتقدون أن الجنّة خلقت لهم لا لسواهم، وأن نار جهنم لن تمسّهم، وأنّهم أبناء الله وخاصته، وأنّهم يحملون جميع الفضائل والمحاسن.
هذا الغرور الأرعن تعكسه كثير من آيات الذكر الحكيم الآية (18) من سورة المائدة تقول عن لسانهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ).وفي الآية111 من سورة البقرة نرى إدعاءً آخر لهم: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصارَى)، وهكذا في الآية 80 من سورة البقرة: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيّاماً مَعْدُودَةً).
هذه التصورات الموهومة كانت تدفعهم من جهة إلى الظلم والجريمة والطغيان، وتبعث فيهم ـ من جهة اُخرى ـ الغرور والتكبّر والإستعلاء.
والقرآن الكريم يجيب هؤلاء القوم جواباً دامغاً إذ يقول: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
ألا تحبّون رحمة الله وجواره ونيل النعيم الخالد في الجنان؟ ألا يحب الحبيب لقاء حبيبه؟!
لقد كان اليهود يهدفون من كلامهم هذا وأن الجنّة خالصة لنا دون سائر النّاس: أو أن النار لاتمسّنا إلاّ أيّاماً معدودات ـ إلى توهين إيمان المسلمين وتخدير عقائدهم.
لماذا تفرون من الموت، وكل ما في الآخرة من نعيم هو لكم كما تدّعون؟! لماذا هذا الإِلتصاق بالأرض وبالمصالح الذاتية الفردية، إن كنتم مؤمنين بالآخرة وبنعيمها حقّاً؟!
بهذا الشكل فضح القرآن أُكذوبة هؤلاء وبيّن زيف ادعائهم.
في الآية التّالية تأكيد على ما سبق بشأن ابتعاد القوم عن الموت: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ، وَاللهُ عَلَيْمٌ بِالظَّالِمينَ).
هؤلاء يعلمون ما في ملفّ أعمالهم من وثاق سوداء ومن صحائف إدانة، والله عليم بكل ذلك، ولذلك فهم لا يتمنون الموت، لأنه بداية حياة يحاسبون فيها على كل أعمالهم.
الآية الأخيرة تذكر انشداد هؤلاء بالأرض وحرصهم الشديد على المال والمتاع: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ عَلى حَيَاة) وتذكر الآية أن حرصهم هذا يفوق حرص الذين أشركوا: (وَمِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا).
المشركون ينبغي أن يكونوا أحرص من غيرهم على جمع المال والمتاع، لكن هؤلاء من أصحاب الإدعاءات الفارغة، بلغوا من الحرص ما لم يبلغه المشركون.
وبلغ شغفهم بالدنيا أنّه (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَو يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة) لجمع مزيد من متاع الدنيا، أو خوفاً من عقاب الآخرة! لكن هذا العمر الذي يتمناه كل واحد منهم لا يبعده عن العذاب، ولا يغيّر من مصيره شيئاً (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أنْ يُعَمَّرَ)إذ كل شيء محصى لدى الله، ولا يعزب عن عمله شيء (واللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).

* * *


بحوث


1 ـ المقصود من الأعوام الألف في قوله تعالى: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْيُعَمَّرُ ألْفَ سَنَة)ليس هذا العدد المعروف، بل يعني العمر الطويل المديد، فهو ليس للتعدد، بل للتكثير.
وذهب بعض المفسرين إلى أن العرب لم تكن تعرف أنذاك عدداً أكبر من الألف، ولم يكن لما يزيد على الألف اسم عند العرب، ولذلك كان أبلغ تعبير عن الكثرة!(345).
2 ـ تنكير الحياة في تعبير الآية (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَيَاة) تفيد ـ كما ذهب إلى ذلك جمع من المفسرين ـ الإستهانة والتحقير، أي إن هؤلاء حريصون حتى على أتفه حياة وأرخصها وأشقاها، ويفضلونها على الآخرة(346).
3 ـ إفرازات العنصرية:

كان التعصّب العنصري وراء كثير من الحروب والمآسي التي حدثت على الساحة البشرية خلال جميع عصور التأريخ، وفي عصرنا الحديث كان التعصب ييالعرقي الألماني عام فعا في إشعال لظى الحربين العالميتين الاُولى والثانية.
واليهود يحتلون دون شك مكان الصدارة بين العنصريين المتعصبين على مرّ التأريخ، وها هي دويلتهم المسماة بإسرائيل أُقيمت على أساس هذه العنصرية المقيتة، وما يرتكبه هذا الكيان العنصري الصهيوني من جرائم فظيعة إنما هو استمرار لجرائمه التأريخية الناشئة عن عنصريته البغيضة.
لقد دفعتهم عنصريتهم لأن يحتكروا حتّى تعاليم موسى، ويزيلوا عنصر الدعوة من دينهم، كي لا يعتنق تعاليمهم أحد غيرهم.
وهذه النزعة الأنانية هي التي جعلت هؤلاء القوم منبوذين ممقوتين من قبل كل شعوب العالم.
التعصب العنصري شعبة من الشرك، ولذلك حاربه الإِسلام بشدّة، مؤكداً أن كل أبناء البشر من أب واحد واُمّ واحدة، ولا تمايز إلاّ بالتقوى والعمل الصالح.
4 ـ عوامل الخوف من الموت:

أكثر النّاس يخافون من الموت، وخوفهم هذا يعود إلى عاملين:
1 ـ الخوف من الفناء والعدم، فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرون بعد هذه الحياة استمرار لحياتهم، ومن الطبيعي أن يخاف الإنسان من الفناء، وهذا الخوف يلاحق هؤلاء حتى في أسعد لحظات حياتهم فيحوّلها إلى علقم في أفواههم.
2 ـ الخوف من العقاب، ومثل هذا الخوف يلاحق المذنبين المؤمنين بالآخرة، فيخافون أن يحين حينهم وهم مثقلون بالآثام والأوزار، فينالوا جزاءهم، ولذلك يودّون أن تتأخّر ساعة انتقالهم إلى العالم الآخر.
الأنبياء العظام أحيوا في القلوب الإيمان باليوم الآخر، وبذلك أبعدوا شبح الفناء والإنعدام من الأذهان، وبينوا أن الموت انتقال إلى حياة أبدية خالدة منعّمة.
من جهة اُخرى دعا الأنبياء إلى العمل الصالح، كي يبتعد الإنسان عن الخوف من العقاب، ولكي يزول عن القلوب والأذهان كل خوف من الموت.

* * *


الآيتان



قُلْ مَن كَانَ عَدُوَّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ__ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلَّهِ وَمَلَـئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَئلَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَفِرِينَ__

أسباب النّزول


روي عن ابن عباس أن سبب نزول هذه الآية، ما روي أن ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك، لما قدم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة، سألوه أسئلة، وكان رسول الله يجيبهم وهم يصدّقون جوابه، من ذلك أنهم قالوا له: يا محمّد كيف نومك؟ فقد اُخبرنا عن نوم النّبي الذي يأتي في أواخر الزمان، فقال: تنام عيناي وقلبي يقظان. قالوا: صدقت يا محمّد ... ثم قال له ابن صوريا: خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتبعتك: أيّ ملك يأتيك بما يُنزل الله عليك؟ قال: جبريل. قال ابن صوريا: ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنّا بك!!(347).

التّفسير


قومٌ جَدِلون:
سبب نزول الآية الكريمة يبيّن طبيعة العناد واللجاج والجدل في اليهود، إبتداء من زمان موسى(عليه السلام) ومروراً بعصر خاتم الأنبياء وحتى يومنا هذا يعرضون عن الحقّ بألوان الحجج الواهية.
حجّتهم في هذا الموضع المذكور في الآية ثقل التكاليف التي يأتي بها جبرائيل، وعداؤهم لهذا الملك، ورغبتهم في أن يكون ميكائيل أميناً للوحي!! وكأن الملائكة هم مصدر الاحكام الإلهية! والقرآن الكريم يصرّح بأن الملائكة ينفّذون أوامر الله ولا ينحرفون عن طاعته: (لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ)(348).
القرآن يجيب عن ذريعة هؤلاء: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرَيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) وما جاء به جبرائيل يصدّق ما نزل في الكتب السماوية السابقة: (مُصَدِقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) وهو إضافة إلى كل هذا: (وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).
فالجواب في هذه الآية ينطوي على ثلاث شعب: يأوّ: إن جبريل لا يأتي بشيء من عنده، بل ما يأتي به هو (بِإِذْنِ الله). ثانياً: ما جاء به جبريل تصدّقه الكتب السماوية السابقة، لانطباقه على العلامات والدلالات المذكورة في تلك الكتب. ثالثاً: محتوى ما جاء به جبرائيل يدلّ على أصالته وحقّانيته.
الآية التالية تؤكد نفس هذا الموضوع تأكيداً مقروناً بالتهديد وتقول: (مَنْ كَانَ عَدُوّاً للهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْريلَ وَميكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌ لِلْكَافِرينَ)(349)مشيرة بذلك إلى أن موقف الإنسان من الله وملائكته ورسله ومن جبرئيل وميكائيل، لا يقبل التفكيك، وأن الموقف المعادي من أحدهم هو معاداة للآخرين(350).
وبعبارة اُخرى: الأوامر الإلهية الباعثة على تكامل الإنسان، تنزل عن طريق الملائكة على الرسل، وإن كان بين مهمات الملائكة اختلاف، فذلك يعود إلى تقسيم المسؤوليات لا إلى التناقض بين المهمات، واتخاذ موقف معاد من أحدهم هو عداء الله سبحانه.
جِبْرِيل وَمِيكَال

ورد اسم جبريل ثلاث مرات، واسم ميكال مرة واحدة في القرآن الكريم(351). ويستفاد من الآيات أنّهما ملكان مقرّبان من ملائكة الله تعالى. قيل: إنّ اسم جبرئيل عبري يعني «رجل الله» أو «قوة الله» (جبر: تعني الرجل أو القوّة، و ئيل: بمعنى الله).
هذه الآيات الكريمة تعرّف جبريل أنه رسول الوحي الإلهي إلى النّبي، ومنزّل القرآن على قلبه، ولواسطة الوحي اسم آخر في الآية 102 من سورة النحل هو: (رُوحُ الْقُدُسِ) أمّا الآية 191 من سورة الشعراء فتسميه (الرُّوحُ الأَمِينُ)، ويصرّح المفسرون أن المقصود من روح المقدس والروح الأمين، هو جبرئيل.
وهناك أحاديث تدور حول تشكل جبرائيل بصورمتعددة لدى نزوله على النّبي، وكان في المدينة ينزل على صورة (دحية الكلبي) وهو رجل جميل الطلعة.
يستفاد من سورة النجم أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) شاهد جبرائيل مرّتين على هيئته الأصلية(352).
ذكرت المصادر الإسلامية أسماء أربعة من الملائكة المقربين هم: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وأعظمهم مرتبة جبرائيل.
وفي كتب اليهود ورد ذكر جبريل وميكال، ومن ذلك ما ورد في كتاب دانيال حيث وصف جبرائيل بأنه الغالب لرئيس الشياطين، ووصف ميكائيل بأنه حامي قوم بني إسرائيل(353).
ذكر بعض المحققين أن المصادر اليهودية خالية من الدلالة على خصومة جبرائيل لهؤلاء القوم، وهذا يؤيد أن ادعاءات اليهود بشأن موقفهم من جبرائيل، لم يكن إلاّ ذريعة للتنصل من الإسلام إذ لا يوجد في مصادرهم الدينية ما يشير إلى وجود مثل هذه العداوة بينهم وبين جبرئيل.

* * *


الآيات



وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَت بَيِّنَـت وَمَا يَكْفُرُبِهَآ إِلاَّ الْفَـسِقُونَ__ أَوَكُلَّمَا عَـهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَيَؤْمِنُونَ__ وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّـمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ كِتَـبَ اللهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ__

سبب النّزول


قال ابن عباس: إن ابن صوريا ـ وهو من أحبار اليهود ـ قال لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يا محمّد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك لها، فأنزل الله هذه الآية(354)

التّفسير


الناكثون من اليهود
الآية الاُولى تشير إلى الآيات والعلامات والدلائل الكافية الواضحة التي توفرت لدى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتؤكد أن المعرضين عن هذه الآيات البينات أدركوا في الواقع حقّانية الدعوة، لكنهم هبّوا للمعارضة مدفوعين بأغراضهم الشخصية: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَات بَيِّنَات وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إلاَّ الْفَاسِقُونَ).
التفكير في آيات القرآن ينير الطريق لكل طالب حق منصف، وبمطالعة هذه الآيات يمكن فهم صدق دعوة نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعظمة القرآن.
ة.ن هذه الحقيقة الواضحة لا يفهمها الذين انطفأ نور قلوبهم بسبب الذنوب، من هنا نرى الفاسقين الملوثين بالخطايا يعرضون عن الإيمان بالرسالة.
ثم يتطرق القرآن إلى صفة مجموعة من اليهود، وهي صفة النكول ونقض العهود والمواثيق، وكأنها صفة تأريخية تلازمهم على مرّ العصور (أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، بَلْ أكثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ).
لقد أخذ الله ميثاقهم في جانب الطور أن يعملوا بالتوراة لكنهم نقضوا الميثاق، وأخذ منهم الميثاق أن يؤمنوا بالنّبي الخاتم المذكور عندهم في التوراة فلم يؤمنوا به.
يهود «بني النضير» و«بني قريضة» عقدوا الميثاق مع النّبي لدى هجرته المباركة إلى المدينة أن لا يتواطؤوا مع أعدائه، لكنهم نقضوا العهد، وتعاونوا مع مشركي مكة في حرب الأحزاب ضد المسلمين.
وهذه الخصلة في هذا الفريق من اليهود نجدها اليوم متجسدةً في الصهيونية العالمية التي تضع كل المواثيق والقرارات والمعاهدات الدولية تحت قدميها، متى ما تعرّضت مصالحها للخطر.
الآية الأخيرة تؤكد بصراحة أكثر على هذا الموضوع: (وَلَمّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ).
كان أحبار اليهود يبشرون النّاس قبل البعثة النبوية بالرّسول الموعود ويذكرون لهم علاماته وصفاته، فلمّا بعث نبي الإِسلام، أعرضوا عمّا جاء في كتابهم، وكأنهم لم يروا ولم يقرأوا ما ذكرته التوراة في هذا المجال.
هذه هي النتيجة الطبيعية للأفراد الغارقين في ذاتياتهم، هؤلاء ـ حتى في دعوتهم إلى حقيقة من الحقائق ـ لا يتجردون عن ذاتياتهم، فإن وصلوا إلى تلك الحقيقة ووجدوها تنسجم مع أهوائهم، أعرضوا عنها ونبذوها وراء ظهروهم.

* * *


بحوث


1 ـ واضح أن تعبير «النُّزول» أو «الإِنْزَالِ» بشأن القرآن الكريم لا يعني يالإِنتقال المكاني من الأعلى إلى الاسفل وأن الله مث في السماء وأنزل القرآن إلى الارض، بل التعبير يشير إلى علو مكانة ربّ العالمين.
2 ـ كلمة «فاسق» من مادة «فسق» وتعني خروج النّواة من الرطب، فقد تسقط الرطبة من النخلة، وتنفصل عنها النّواة. ويقال عن هذا الإنفصال في العربية «فسقت النواة»، ثم أُطلقت الكلمة على كل انفصال عن خط طاعة الله، وعن طريق العبودية.
فكما أن النّواة تفسق إذا نزعت لباسها الحلو المفيد المغذي، كذلك الفاسق ينزع عنه بفسقه كل قيمه وشخصيّته الإنسانية.
3 ـ القرآن في حديثه عن اليهود لا يوبّخ الجميع بسبب ذنوب الأكثرية، بل يستعمل كلمات مثل «فريق» «أكثر» ليصون حق الأقلية المؤمنة المتقية، وطريقة القرآن هذه في حديثه عن الأُمم درس لنا كي لا نحيد في أحاديثنا ومواقفنا عن الحقّ والحقيقة.

* * *


الآيتان



وَاتَّبَعُواْ مَاتَتْلُواْ الشَّيَـطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَـنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـنُ وَلَـكِنَّ الشَّيَـطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـروتَ وَمَـرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَد حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَاهُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَايَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَهُ مَالَهُ فِى الاَْخِرَةِ مِنْ خَلَـق وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْكَانُواْ يَعْلَمُونَ__ وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللهِ خَيْرٌ لَّو كَانُوا يَعْلَمُونَ__

التّفسير


سليمان وسحرة بابل
يفهم من الأحاديث أن مجموعة من النّاس مارست السحر في عصر النّبي سليمان(عليه السلام)، فأمر سليمان بجمع كل أوراقهم وكتاباتهم، واحتفظ بها في مكان خاص. (لعل الإحتفاظ بها يعود إلى إمكان الإِستفادة منها في إبطال سحر السحرة).
بعد وفاة سليمان عمدت جماعة إلى إخراج هذه الكتابات، وبدأوا بنشر يالسحر وتعليمه. واستغلت فئة هذه الفرصة فأشاعت أن سليمان لم يكن نبيّاً أص، بل كان يسيطر على مُلكه ويأتي بالأُمور الخارقة للعادة عن طريق السحر!
مجموعة من بني إسرائيل سارت مع هذه الموجة ولجأت إلى السحر، وتركت التوراة.
عندما ظهر النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وجاءت آيات القرآن مؤيدة لنبوة سليمان، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمّد يقول: سليمان نبي وهو ساحر!
وجاءت الآية ترد على مزاعم هؤلاء وتنفي هذه التّهمة الكبرى عن سليمان(عليه السلام)(355).
الآية الاُولى إذن تكشف فضيحة اُخرى من فضائح اليهود وهي إتهامهم لنبي الله بالسحر والشعوذة، تقول الآية عن هؤلاء القوم: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمـَانَ).
والضمير في «وَاتَّبِعُوا» قد يعود إلى المعاصرين للنبي، أو إلى أولئك اليهود المعاصرين لسليمان، أو لكلا الفريقين.
والمقصود بكلمة «الشَّيَاطِينَ» قد يكون الطغاة من البشر أو من الجن أو من كليهما.
ثم تؤكد الآية على نفي الكفر عن سليمان: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمـَانُ).
فسليمان(عليه السلام) لم يلجأ إلى السحر، ولم يحقق أهدافه عن طريق الشعوذة: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).
هؤلاء اليهود لم يستغلوا ما تعلموه من سحر الشياطين فحسب، بل أساؤوا الإِستفادة أيضاً من تعليمات هاروت وماروت: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ)(356).
هاروت وماروت ملكان إلهيّان جاءا إلى النّاس في وقت راج السحر بينهم وابتلوا بالسحرة والمشعوذين، وكان هدفهما تعليم النّاس سبل إبطال السحر، وكما إن إحباط مفعول القنبلة يحتاج إلى فهم لطريقة فعل القنبلة، كذلك كانت عملية إحباط السحر تتطلب تعليم النّاس اُصول السحر، ولكنهما كانا يقرنان هذا التعليم بالتحذير من السقوط في الفتنة بعد تعلم السحر (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَد حَتَّى يَقُولاً إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ).
وسقط أُولئك اليهود في الفتنة، وتوغلوا في إنحرافهم، فزعموا أن قدرة سليمان لم تكن من النّبوة، بل من السحر والسحرة. وهذا هو دأب المنحرفين دائماً، يحاولون تبرير إنحرافاتهم بإتهام العظماء بالإنحراف.
هؤلاء القوم لم ينجحوا في هذا الإختبار الإِلهي، فأخذوا العلم من الملكين واستغلّوه على طريق الإِفساد لا الإِصلاح، لكن قدرة الله فوق قدرتهم وفوق قدرة ما تعلموه: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَمَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ).
لقد تهافتوا على إقتناء هذا المتاع الدّنيوي وهم عالمون بأنه يصادر آخرتهم (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَن اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الاْخِرَةِ مِنْ خَلاَق)(357). لقد باعوا شخصيتهم الإِنسانية بهذا المتاع الرخيص (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
لقد أضاعوا سعادتهم وسعادة مجتمعهم عن علم ووعي، وغرقوا في مستنقع الكفر والإِنحراف (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوا لَمَثْوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).

* * *

نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 16
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست