responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 10

بحث


هل يؤيّد القرآن ما جاء في التّوراة والإِنجيل؟!


في مواضع عديدة يصرّح القرآن بتصديقه لما جاء في الكتب الإِلهية السابقة، كما جاء في الآية المذكورة: (مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ) وكما جاء في الآيتين 89 و 101 من سورة البقرة: (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ). وفي الآية 48 من سورة المائدة: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ).
بعض دعاة اليهودية والنصرانية. استدلوا بهذه الآيات لإِثبات عدم تحريف التوراة والإِنجيل. وقالوا: إن التوراة والإِنجيل في عصر نبي الإِسلام لا يختلفان حتماً عمّا عليه الآن. وإن أصابهما تحريف فهذا التحريف يعود إلى فترة سابقة على ذلك العصر. ولما كان القرآن قد أيّد صحة التوراة والإِنجيل الموجودين في عصر نبي الإِسلام، فعلى المسلمين أن يعترفوا بصحة هذين الكتابين الموجودين بين ظهرانينا اليوم.
الجواب

يؤكد القرآن في مواضع عديدة وجود علائم نبي الإِسلام ودينه في تلك الكتب المحرفة التي كانت موجودة في أيدي اليهود والنصارى آنذاك. وهذا يعني وجود حقائق في تلك الكتب لم تمتد إليها يد التحريف، ذلك لأنّ التحريف لا يعني تغيير كل نصوص تلك الكتب السماويّة، بل إن تلك الكتب كانت تحمل بين طياتها حقائق، ومن تلك الحقائق علامات النّبي الخاتم (ولا زالت بعض هذه البشائر مشهودة في الكتب الموجودة الآن).
بعثة النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم) وكتابه السماوي تصديق لما جاء في تلك الكتب من علامات، أي تحقيق عملي لِتلك العلامات. وكلمة التصديق بمعنى (التحقيق العملي) وردت في مواضع اُخرى من القرآن الكريم كقوله تعالى لنبيّه إبراهيم(عليه السلام): (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا)(236).
أي أنك قد حققت عملياً رؤياك.
وتصرح الآية 157 من سورة الأعراف بأن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) تحقيق عملي لما يجدونه مكتوباً في التوراة والإِنجيل: (اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيِّ الاُْمِّيَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبَاً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالاَْنْجِيلِ ...)(237).
على أي حال، ليس في الآيات المذكورة دلالة على تصديق جميع محتويات التوراة والإِنجيل، بل دلالتها تقتصر على «التصديق العملي» لما جاء في الكتب الموجودة بيد اليهود والنصارى بشأن النّبي الخاتم وكتابه. هذا، إلى جانب وجود آيات عديدة في القرآن تتحدث عن تحريف اليهود والنصارى لآيات التوراة والإِنجيل، وهو شاهد حيّ صريح على مسألة التحريف.
شاهد حيّ آخر:

«فخر الإِسلام» ـ الذي كان من كبار قساوسة المسيحيين، وتتلمذ عند علمائهم حتى حاز مراتب كبيرة في الدراسات الكنيسة ـ يتحدث في مقدمة كتابه «أنيس الاعلام» عن انتقاله من المسيحية إلى الإِسلام فيقول:
«... بعد بحث طويل وعناء كبير وتجوال في المدن، عثرت على قسيس كبير متميز في زهده وتقواه، كان يرجع إليه الكاثوليك بما فيهم سلاطينهم، تعلمت عليه زمناً مذاهب النصارى، وكان له طلاب كثيرون، ولكنه كان ينظر إليّ من بينهم نظرة خاصة، وكانت كل مفاتيح البيت بيدي، إلا مفتاحاً واحداً لغرفة صغيرة، احتفظ به عنده ... .
وفي يوم اعتلّت صحة القسيس، فقال لي: قل للطلاب إني لا أستطيع التدريس اليوم. حينما جئت الطلاب وجدتهم منهمكين في نقاش حول معنى «فارقليطا» في السريانية، و«پريكلتوس» في اليونانية ... واستمر بينهم النقاش، وكل كان يدلي برأيه ... .
بعد أن عدت إلى الاُستاذ سألني عما كان يدور بين الطلاب، فأخبرته، فقال لي: وما رأيك؟
قلت: اخترت الرأي الفلاني.
قال القسيس: ما قصّرت في عملك، ولكن الحقّ غير ذلك. لأن حقيقة هذا الأمر لا يعلمها إلا الراسخون في العلم، وقليل ماهم. أكثرت في الالحاح عليه أن يوضح لي معنى الكلمة. فبكى بكاءً مرّاً وقال: لم أخف عليك شيئاً ... إن لفهم معنى هذه الكلمة أثراً كبيراً، ولكنه إن انتشر فسنتعرض للقتل! فإن عاهدتني أن لا تفشيه فسأخبرك ... فأقسمت بكل المقدسات أن لا أذكر ذلك لأحد، فقال: إنه اسم من أسماء نبي المسلمين، ويعني «أحمد» و«محمّد».
ثم أعطاني مفتاح الغرفة وقال: افتح الصندوق الفلاني، وهاتِ الكتابين اللذين فيه، جئت إليه بالكتابين وكانا مكتوبين باليونانية والسريانية على جلد، ويعودان إلى عصر ما قبل الإِسلام.
الكتابان ترجما «فارقليطا» بمعنى أحمد ومحمّد، ثم أضاف الاُستاذ: علماء النصارى كانوا مجمعين قبل ظهوره أن «فارقليطا» بمعنى «أحمد ومحمّد»، ولكن بعد ظهور محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، غيّروا هذا المعنى حفظاً لمكانتهم ورئاستهم وأوّلوه، واخترعوا له معنى آخر لم يكن على الإِطلاق هدف صاحب الإِنجيل.
سألته عما يقوله بشأن دين النصارى؟ قال: لقد نسخ بمجيء الإِسلام، وكرر ذلك ثلاثاً، ثم قلت:
ما هي طريقة النجاة والصراط المستقيم في زماننا هذا؟ قال: إنما هي باتباع محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).
قلت: وهل التابعون له ناجون؟
قال: إي والله، وكرر ذلك ثلاثاً.
ثم بكى الاُستاذ وبكيت كثيراً ثم قال: إذا أردت الآخرة والنجاة فعليك بدين الحق ... وأنا أدعو لك دائماً، شرط أن تكون شاهداً لي يوم القيامة أنّي كنت في الباطن مسلماً، ومن أتباع محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ... وما من شك أن الإِسلام هو دين الله اليوم على ظهر الأرض»(238).
وكما يلاحظ فإن هذه الوثيقة الهامة تصرّح بما فعله علماء أهل الكتاب بعد ظهور نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) من تحريف لتفسير اسم النّبي وعلاماته، تحقيقاً لمصالحهم الشخصية.

* * *


الآية



أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَـبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ__ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَو ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَـشِعِينَ__ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُّلَـقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُـمْ إِلَـيْـهِ رَ جِعُونَ__

التّفسير


(أَتَاْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ)؟!
هذا السّؤال الإِستنكاري ـ وإن كان موجهاً إلى بني إسرائيل كما يتبين من سياق الآيات السابقة والتالية ـ له حتماً مفهوم واسع يشمل الآخرين أيضاً.
قال «الطّبرسي(رحمه الله)» في «مجمع البيان»: هذه الآية خطاب لعلماء اليهود. وبّخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر النّاس بالإِيمان بمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)وترك أنفسهم في ذلك.
وقال أيضاً: كان علماء اليهود يقولون لأقربائهم من المسلمين اثبتوا على ما أنتم عليه ولا يؤمنون هم.
لذلك كانت الآية الاُولى من الآيات التي يدور حولها بحثنا تحمل توبيخاً لهذا العمل: (أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ، وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)؟!
يمنهج الدعاة إلى الله يقول على أساس العمل أوّ ثم القول. فالدّاعية إلى الله يبلّغ بعمله قبل قوله، كما جاء في الحديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): «كُونُوا دُعَاةَ النَّاسِ بِأَعْمَالِكُمْ وَلاَ تَكُونُوا دُعَاةً بِأَلْسِنَتِكُمْ»(239).
التأثير العميق للدعوة العملية يأتي من قدرة مثل هذه الدعوة على فتح منافذ قلب السامع، فالسامع يثق بما يقوله الداعية العامل، ويرى أن هذا الداعية مؤمن بما يقول وأن ما يقوله صادر عن القلب. والكلام الصادر عن القلب ينفذ إلى القلب. وأفضل دليل على إيمان القائل بما يقوله، هو العمل بقوله قبل غيره، كما يقول علي(عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَاللهِ مَا أَحُثُّكُمْ على طَاعَة إِلاَّ وأَسْبِقُكُمْ إلَيْهَا، وَلاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَة إِلاَّ وَأَتَنَاهَىْ قَبْلَكُمْ عَنْهَا»(240).
وفي حديث عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): «مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً ييَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْ وَعَمِلَ بِغَيْرِهِ»(241).
علماء اليهود كانوا يخشون من انهيار مراكز قدرتهم وتفرّق عامة النّاس عنهم، إن اعترفوا برسالة خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك حرّفوا ما ورد بشأن صفات نبي الإِسلام في التوراة.
والقرآن يحث على الاستعانة بالصبر والصّلاة للتغلب على الأهواء الشخصية والميول النفسية، فيقول في الآية التالية: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ)ثم يؤكد أن هذِهِ الاستعانة ثقيلة لا ينهض بعبئها إلا الخاشعون: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرةٌ إِلاَّ على الْخَاشِعِينَ).
وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة وصف للخاشعين: (اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
كلمة «يَظُنُّونَ» من مادة «ظنّ» وقد تأتي بمعنى اليقين(242). وفي هذا الموضع تعني الإِيمان واليقين القطعي. لأن الإِيمان بلقاء الله والرجوع إليه، يحيي في قلب الإِنسان حالة الخشوع والخشية والإِحساس بالمسؤولية، وهذا أحد آثار تربية يالإِنسان على الإِيمان بالمعاد، حيث تجعل هذه التربية الفرد مائ دوماً أمام مشهد المحكمة الكبرى، وتدفعه إلى النهوض بالمسؤولية وإلى الحق والعدل.
ويحتمل أن يكون استعمال «الظن» في الآية للتأكيد، أي أن الإِنسان لو ظنّ بالآخرة فقط فظنه كاف لأن يصده عن ارتكاب أي ذنب. وهو تقريع لعلماء اليهود وتأكيد على أنهم لا يمتلكون إيماناً باليوم الآخر حتى على مستوى الظن، فلو ظنوا بالآخرة لأَحسّوا بالمسؤولية، وكفّوا عن هذه التحريفات!(243)

* * *


بحثان


1 ـ ما هو لقاء الله؟
عبارة «لقاء الله» وردت مراراً في القرآن الكريم، وتعني بأجمعها الحضور على مسرح القيامة. من البديهي أن المقصود بلقاء الله ليس هو اللقاء الحسّي، كلقاء أفراد البشر مع بعضهم، لأن الله ليس بجسم، ولا يحده مكان، ولا يرى بالعين. بل المقصود مشاهدة آثار قدرة الله وجزائه وعقابه ونعمه وعذابه على ساحة القيامة، كما ذهب إلى ذلك جمع من المفسرين.
أو إن المقصود الشهود الباطني والقلبي، لأن الإِنسان يصل درجة كأنه يرى الله ببصيرته أمامه، بحيث لا يبقى في نفسه أي شك وترديد.
هذه الحالة قد تحصل للأفراد نتيجة الطّهر والتقوى والعبادة وتهذيب النفس في هذه الدنيا. وفي «نهج البلاغة» نقرأ: أن «ذعلب اليماني» وهو من فضلاء أصحاب الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، سأل علياً هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟
أجابه علي: أَفَأَعْبُدُ مَا لاَ أَرى؟!
وحين طلب ذعلب مزيداً من التوضيح قال الإِمام: «لاَ تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعَيَانِ، وَلَكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الاِْيِمَانِ»(244).
هذا الشهود الباطني ينجلي للجميع يوم القيامة، ولا يبقى أحد إلاّ وقد آمن إيماناً قاطعاً، لوضوح آثار عظمة الله وقدرته في ذلك اليوم.
2 ـ سبيل التغلب على الصعاب

ثمة منطلقان أساسيان للتغلب على الصعاب والمشاكل، أحدهما داخلي، والآخر خارجي.
أشارت الآية إلى هذين المنطلقين بعبارة «الصبر» و«الصلاة». فالصبر هو حالة الصمود والإِستقامة والثبات في مواجهة المشاكل، والصلاة هي وسيلة الإِرتباط بالله حيث السندُ القويّ المكين.
كلمة «الصبر» فسرت في روايات كثيرة بالصوم، لكنها لا تنحصر حتماً. بل الصوم أحد المصاديق الواضحة البارزة للصبر. لأن الإِنسان يحصل في ظل هذه العبادة الكبرى على الإِرادة القوية والإِيمان الراسخ والقدرة على التحكم في الميول والرغبات.
روى بعض المفسرين في تفسير هذه الآية: أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا أحزنه أمر استعان بالصلاة والصوم(245).
وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) أنه قال: «مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ غَمٌّ مِنْ غُمُوم الدُّنْيَا أَنْ يَتَوَضَّأَ ثُمَّ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعَ رَكْعَتَينِ يَدْعُو اللهَ فِيهِمَا، أَمَا سَمِعْتَ اللهَ تَعَالى يَقُولُ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ»(246).
التوجه إلى الصلاة والتضرّع إلى الله سبحانه يمنح الإِنسان طاقة جديدة تجعله قادراً على مواجهة المشاكل.
وفي كتاب «الكافي» عن الصادق(عليه السلام): «كَانَ عَلِيٌّ(عليه السلام) إِذَا هَالَهُ أمْرٌ فَزَعَ إِلىَ الصّلاَةِ ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الاْيَةَ: وَاسْتَعينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ».
نعم، الصلاة تربط الإِنسان بالقدرة اللامتناهية التي لا يقهرها شيء. وهذا الإِحساس يبعث في الإِنسان قوّة وشهامة على تحدّي المشاكل والصعاب.

* * *


الآيتان



يَـبَنِى إِسْرَ ءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـلَمِينَ__ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْس شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ__

التّفسير


أوهام اليهود
في هذه الآيات خطاب آخر إلى بني إسرائيل فيه تذكير بنعم الله: (يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اْلَّتي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ).
هذه النعم سابغة واسعة النطاق، ابتداءً من الهداية والإيمان، وانتهاءً بالنجاة من فرعون ونيل العظمة والاستقلال.
ثم تشير الآية من بين كل هذه النعم إلى نعمة التفضيل على بقية البشر، وهي نعمة مركبة من نعم مختلفة، وتقول: (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمينَ).
لعل البعض تصور أن هذا التفضيل صفة أبدية مستمرة على مرّ العصور. لكن دراسة سائر آيات القرآن تبين أن هذا التفضيل هو تفضيل بني إسرائيل على يغيرهم من أفراد عصرهم ومنطقتهم، لا تفضي مطلقاً. فالقرآن الكريم يخاطب المسلمين في آية اُخرى ويقول: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ...)(247).
كما يتحدث القرآن عن وراثة بني إسرائيل للأرض فيقول: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاَْرْضِ وَمَغَارِبَهَا)(248).
وواضح أن هذه الوراثة لم تكن تشمل آنذاك جميع العالم، والمقصود من الآية مشارق المنطقة التي كانوا يعيشون فيها ومغاربها، من هنا فالتفضيل على العالمين هو تفضيلهم على أفراد منطقتهم.

* * *


الآية التالية ترفض أوهام اليهود، التي كانوا يتصورون بموجبها أن الأنبياء من أسلافها سوف يشفعون لهم، أو أنّهم قادرون على دفع فدية وبدل عن ذنوبهم، كدفعهم الرشوة في هذه الحياة الدنيا.
القرآن يخاطبهم ويقول: (وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس شَيْئاً. وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ. وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُم يُنْصَرُونَ).
الحاكم أو القاضي في تلك المحكمة الإِلهية، لا يقبل سوى العمل الصالح، كما تقول الآية الكريمة: (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْب سَلِيم)(249).
إنّ الآية المذكورة من سورة البقرة، تشير في الواقع إلى ما يجري من محاولات في هذه الحياة الدنيا لانقاذ المذنب من العقاب.
ففي الحياة الدنيا قد يتقدم إنسان لدفع غرامة عن إنسان مذنب لانقاذه من العقاب، أما في الآخرة فإنّه: (لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس).
وربّما يلجأ المذنب في هذه الحياة إلى الشفعاء لينقذوه ممّا ينتظره من الجزاء، ويوم القيامة (... لا يقبل منها شفاعة).
وإذا لم تُوجد الشفاعة، يتقدم الإِنسان في الحياة الدنيا بدفع (العدل) وهوبدل الشيء من جنسه، أما في الآخرة فــ (لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ).
وإذا لم تنفع الوسائل المذكورة كلها، يستصرخ أصحابه لينصروه ويخلصوه من الجزاء، وفي الآخرة لا يقوم بنجاتهم أحد (وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ).
القرآن الكريم يؤكد أن الاُصول الحاكمة على قوانين الجزاء يوم القيامة تختلف كليّاً عمّا هو السائد في هذه الحياة، فالسبيل الوحيد للنجاة يوم القيامة، هو الإِيمان والتقوى والاستعانة بلطف الباري تعالى.
تاريخ الشرك وتاريخ المنحرفين من أهل الكتاب، مليء بأفكار خرافية تدور حول محور التوسل وبمثل الأمور التي ذكرتها الآية الكريمة للفرار من يالعقاب الاُخروي. صاحب المنار يذكر مث، أن النّاس في بعض مناطق مصر ـ كانوا يدفعون مبلغاً من المال إلى الذي يتعهد غسل الميت، ويسمون هذا المبلغ أُجرة الإِنتقال إلى الجنّة(250).
وفي تاريخ اليهود نقرأ أنهم كانوا يقدمون القرابين للتكفير عن ذنوبهم، وإن لم يجدوا قرباناً كبيراً يكتفون بتقديم زوج من الحمام.(251)
وفي التاريخ القديم كانت بعض الاقوام تدفن مع الميت حليّه وأسلحته، ليستفيد منها في الحياة الاُخرى(252).
القرآن ومسألة الشّفاعة

العقاب الإِلهي في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا ينزل بساحةالإِنسان دون شك من أجل الانتقام. بل إن العقوبات الإِلهية تشكل عنصر الضمان في تنفيذ القوانين، وتؤدي في النتيجة إلى تقدم الإِنسان وتكامله. من هنا يجب الاحتراز عن أي شيءيضعف من قوّة عنصرالضمان هذا،كي لاتنتشربين النّاس الجرأة على ارتكاب المعاصي والذنوب.
من جهة اُخرى، لا يجوز غلق باب العودة والإِصلاح بشكل كامل في وجه المذنبين، بل يجب فسح المجال لإِصلاح أنفسهم وللعودة إلى الله وإلى الطهر والتقوى.
«الشفاعة» بمعناها الصحيح تستهدف حفظ هذا التعادل. إنها وسيلة لعودة المذنبين والملوثين بالخطايا، وبمعناها الخاطئ تشجع على ارتكاب الذنوب.
أولئك الذين لم يفرقوا بين المعنى الصحيح والخاطيء لمسألة الشفاعة، أنكروا هذه المسألة بشكل كامل، واعتبروها شبيهة بالوساطات التي تقدم إلى السلاطين والحكام الظالمين.
وثمة مجموعة كالوهابيين استندوا إلى الآية الكريمة: (لاَ يُقْبَلُ مُنْهَا شَفَاعَةٌ)فأنكروا الشفاعة تماماً، دون الإِلتفات إلى سائر الآيات في هذا المجال.
اعتراضات المنكرين لمسألة الشفاعة يمكن تلخيصها بما يلي:
1 ـ الاعتقاد بالشفاعة، يضعف روح السعي والمثابرة في نفس الإِنسان.
2 ـ الاعتقاد بالشفاعة، انعكاس عن ظروف المجتمعات المتأخرة والإِقطاعية.
3 ـ الاعتقاد بالشفاعة، يؤدي إلى التشجيع على ارتكاب الذنوب وترك المسؤوليات.
4 ـ الاعتقاد بالشفاعة، نوع من الشرك بالله، وهو معارض للقرآن!
5 ـ الاعتقاد بالشفاعة، يعني تغيير أحكام الله وتغيير إرادته وأوامره!
ولكن كل هذه الاعتراضات ناتجة ـ كما سنرى ـ عن الخلط بين الشفاعة بمفهومها القرآني، والشفاعة بمعناها المنحرف الرائج بين الجهلة من النّاس.
ولما كانت هذه المسألة في جانبها الإِيجابي والسلبي ذات أهمية بالغة، فعلينا أن ندرسها بالتفصيل من حيث مفهومها وفلسفتها، وإرتباطهابعالم التكوين، وموقعها في القرآن والحديث، وصلته بالتوحيد والشرك، كي يزول كل إبهام يرتبط بالآية المذكورة وسائر الآيات في حقل الشفاعة.
1 ـ المفهوم الحقيقي للشّفاعة:

كلمة «الشفاعة» من «الشفع» بمعنى «الزوج» و«ضم الشيء إلى مثله»، يقابلها «الوتر» بمعنى «الفرد». ثم أُطلقت على انضمام الفرد الأقوى والأشرف إلى الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف، ولها في العرف والشرع معنيان متباينان كل التباين:
أ: إن الشفاعة لدى السواد تعني أن الشفيع يستفيد من مكانته وشخصيته ونفوذه، لتغيير رأي صاحب قدرة بشأن معاقبة من هم تحت سيطرته.
والشفيع قد يرعب صاحب القدرة هذا، أو قد يستعطفه، أو قد يغير أفكاره بشأن ذنب المجرم واستحقاقه للعقاب ... وأمثال هذه الأساليب.
الشفاعة بهذا المعنى هي ـ بعبارة موجزة ـ لا تعني حدوث أي تغيير في المحتوى النفسي والفكري للمجرم أو المتهم. بل إن كل التغييرات والتحولات تتوجه نحو الشخص الذي تقدم إليه الشفاعة (تأمل بدقة).
هذا اللون من الشفاعة ليست له مكانة في المفهوم الديني على الإِطلاق. لأن الله سبحانه وتعالى لا يخطأ حتى يتوسط الشفيع في تغيير رأيه، ولا يحمل تلك العواطف الموجودة في نفس الإِنسان كي يمكن إثارة عواطفه، ولا يهاب نفوذ شخص كي ينصاع الأوامره، ولا يدور ثوابه وعقابه حول محور غير محور العدالة.
ب: المفهوم الآخر للشفاعة يقوم على أساس تغيير موقف «المشفوع له». أي أن الشخص المشفوع له يوفّر في نفسه الظروف والشروط التي تؤهّله للخروج من وضعه السيّء الموجب للعقاب، وينتقل ـ عن طريق الشفيع إلى وضع مطلوب حَسَن يستحق معه العفو والسماح. والإِيمان بهذا النوع من الشفاعة ـ كما سنرى ـ يربّي الإنسان، ويصلح الأفراد المذنبين، ويبعث فيهم الصحوة واليقظة. والشفاعة في الإِسلام لها هذا المفهوم السامي.
وسنرى أن كل الإِعتراضات والإِنتقادات والحملات التي توجه إلى مسألة الشفاعة، إنما تنطلق من فهم الشفاعة بالمعنى الأوّلي المنحرف، ولا تلتفت إلى المعنى الثاني المنطقي المعقول البنّاء.
هذا تفسير مقتضب للونين من ألوان الشفاعة: أحدهما «تخديري»، والآخر «بنّاء».

* * *


2 ـ الشّفاعة في عالم التكوين
التّفسير الصحيح والمنطقي للشفاعة ـ بالمفهوم الذي مرّ بنا ـ له مصاديق كثيرة في عالم التكوين والخلقة، (إضافة إلى عالم التشريع). الطاقات الأقوى في هذا العالم تنضم إلى الأضعف منها لتسيّرها نحو أهداف بنّاءة.
الشمس تشرق والأمطار تتساقط، لتفجّر القوّة الكامنة في البذرة لتحركها نحو الإنبات، ونحو شقّ جسم التربة والخروج إلى الفضاء الذي استمدت البذرة منه طاقات النموّ والتكامل.
هذه الظواهر هي في الحقيقة شفاعة تكوينية على صعيد قيامة الحياة الدنيا. ولو انطلقنا من هذه النماذج الكونية في الشفاعة لفهم الشفاعة على صعيد التشريع، لابتعدنا عن الإِنحراف، وسنو ضح ذلك قريباً.

* * *


3 ـ مستندات الشفاعة:

القرآن الكريم تحدث في ثلاثين موضعاً عن مسألة «الشفاعة» (بهذا اللفظ)، وهناك إشارات اُخرى إلى هذه المسألة دون ذكر لفظها.
يمكن تقسيم آيات الشفاعة في القرآن إلى المجموعات التالية. المجموعة الاُولى: آيات ترفض الشفاعة بشكل مطلق كقوله تعالى: (انْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ)(253)، وكقوله تعالى: (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)(254).
هذه الآيات رفضت كل الطرق المتصورة لانقاذ المجرمين غير الإيمان والعمل الصالح، سواء كان طريق دفع العوض المادي، أو طريق الصداقة والخلة، أو طريق الشفاعة.
ويقول تعالى بشأن بعض المجرمين: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)(255). المجموعة الثانية: آيات تحصر الشفاعة بالله تعالى، كقوله سبحانه: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيع)(256) و (قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً)(257). المجموعة الثالثة: آيات تجعل الشفاعة متوقفة على إذن الله تعالى كقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)(258)، وقوله (وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عَنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أذِنَ لَهُ)(259) المجموعة الرابعة: آيات تبين شروطاً خاصة للمشفوع له. هذه الشروط تتمثل أحياناً في رضا لله سبحانه: (وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنَ ارْتَضى)(260).
وإستناداً إلى هذه الآية، شفاعة الشفعاء تشمل فقط أُولئك الذين بلغوا مرتبة «الإِرتضاء» أي القبول لدى الله سبحانه وتعالى.
ويتمثل الشرط أحياناً بالعهد عند الله: (لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)(261)، والمقصود من هذا العهد الإيمان بالله ورسوله.
ويتحدث القرآن عن سلب صلاحية الإِستشفاع عن بعض الأفراد مثل المجرمين، كقوله تعالى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيم وَلاَ شَفِيع يُطَاعُ)(262).
ممّا تقدم يتضح أن اتخاذ العهد الإِلهي، والوصول إلى منزلة نيل رضا الله، واجتناب بعض الذنوب مثل الظلم، شروط حتمية للشفاعة.

* * *


4 ـ الشّروط المختلفة للشفاعة:

آيات الشفاعة تصرح أن مسألة الشفاعة في مفهوم الإِسلام مقيدة بشروط، هذه الشروط تحدد تارة الخطيئة التي يستشفع المذنب لها، وتحدّد تارة اُخرى الشخص المشفوع له، كما تقيد من جهة اُخرى الشفيع، وهذه الشروط بمجموعها تكشف عن المفهوم الحقيقي للشفاعة وعن فلسفتها.
يثمة ذنوب كالظلم مث خارجة عن دائرة الشفاعة حيث يقول القرآن (ما لِلظَّالِمَينَ مِنْ حَمِيم وَلا شَفِيع يُطَاعُ) كما مرّ، ولو فهمنا «الظلم» بمعناه الواسع ـ كما سنرى من خلال الأحاديث ـ فان الشفاعة تقتصر حينئذ على المجرمين النادمين السائرين على طريق إصلاح أنفسهم، والشفاعة في هذه الحالة ستكون دعامة للتوبة وللندم (سنجيب أولئك الذين يتصورون أن التائب النادم لا يحتاج إلى الشفاعة).
كما أن الشفاعة ـ وطبقاً للآية 28 من سورة الانبياء ـ لا تشمل إلاّ أولئك المرتقين إلى درجة «الإرِتضاء» وإلى درجة الإِلتزام بالعهد الإِلهي كما مرّ أيضاً في الآية 87 من سورة مريم.
الإِرتضاء، واتخاذ العهد، يعنيان على المستوى اللغوي وكذلك ما ورد من الروايات في تفسير هذه الآيات الإِيمان بالله والحساب والميزان والثواب والعقاب، والاعتراف بالحسنات والسيئات، وبما أنزل الله، إيماناً عميقاً في الفكر، ظاهراً في العمل ... إيماناً يبعد صاحبه عن صفات الظالمين الذين لا يؤمنون بأية قيمة إنسانية، ويدفعه إلى إعادة النظر في منهج حياته.
يقول تعالى: (وَلَو أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحيِماً)(263)، هذه الآية تجعل الاستغفار مقدمة لشفاعة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
ويقول: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ، قَالَ: سَوْفَ اسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)(264)، آثار الندم واضحة على إخوة يوسف في طلبهم من أبيهم.
ويقول سبحانه: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْء رَحْمَةً وَعِلْمَاً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوُا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)(265) فاستغفار الملائكة وشفاعتهم تقتصر على الأفراد المؤمنين السالكين سبيل الله.
وهنا يطرح أيضاً سؤال بشأن جدوى الشفاعة للأفراد المؤمنين السالكين سبيل الله، وسنجيب على ذلك في دراسة حقيقة الشفاعة.
وبشأن الشفعاء ذكر القرآن لهم شرطاً في قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ)(266). من هنا فالمشفوع له أيضاً ينبغي أن يسلك طريق الحق في القول والعمل، كي يكون له إرتباط بالشفيع، وهذا الإِرتباط الضروري بين الشفيع يوالمشفوع له يعتبر بدوره عام بنّاءاً في تعبئة الطاقات على طريق الحق.

* * *


5 ـ الشّفاعة في الحديث:
في الروايات الإِسلامية تعابير كثيرة تكمل محتوى الآيات المذكورة وتوضّح ما خفي منها، من ذلك:
1 ـ في تفسير «البرهان» عن الإِمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام) عن على بن أبي طالب(عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ: «شَفَاعَتِي لاَِهْلِالْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي ...» راوي الحديث ابن أبي عمير يقول: فقُلْتُ لَهُ: يَا بْنَ رَسُولِ الله كَيْفَ تَكُونُ الشَّفَاعَةُ لاَِهْلِ الْكَبَائِر وَاللهُ يَقُولُ (وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) وَمَنْ يَرْتَكِبُ الْكَبَائِرَ لاَ يَكُونُ مُرْتَضى بِهِ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا أَحْمَدَ مَا مِنْ مُؤْمِن يَرْتَكِبُ ذَنْباً إِلاَّ سَاءَهُ ذَلِكَ وَنَدِمَ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيٌّ(صلى الله عليه وآله وسلم)كَفَى بالنَدَم تَوْبَة ... وَمَنْ لَمْ يَنْدَمْ عَلىْ ذَنْب يَرْتَكِبُهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِن وَلَمْ تَجِبْ لَهُ الشَّفَاعَةُ وَكَانَ ظَالِماً والله تَعَالى ذِكْرُهُ يَقُولُ(مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَميم وَلاَ شَفيِع يُطَاعُ)(267)
صدر الحديث يتضمن أن الشفاعة تشمل مرتكبي الكبائر. لكن ذيل الحديث يوضح أن الشرط الأساسي في قبول الشفاعة هو الإِيمان الذي يدفع المجرم إلى مرحلة الندم وجبران ما فات، ويبعده عن الظلم والطغيان والعصيان. (تأمل بدقة).
2 ـ في كتاب «الكافي» عن الإِمام جعفر بن محمّد الصّادق(عليه السلام) في رسالة كتبها إلى أصحابه قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْفَعَهُ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ عِنْدَ اللهِ فَلْيَطْلُبْ إِلَى اللهِ أَنْ يَرْضى عَنْهُ»(268)
يتبين من سياق الرواية، أن كلام الإِمام يستهدف إصلاح الخطأ الذي وقع فيه بعض أصحاب الإِمام في فهم مسألة الشفاعة: ويرفض بصراحة مفهوم الشفاعة الخاطىء المشجع على إرتكاب الذنوب.
3 ـ وعن الصادق(عليه السلام) أيضاً: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بَعَثَ اللهُ الْعَالِمَ وَالْعَابِدَ، فَإِذَا وَقَفَا بَيْنَ يَدَيِ الله عَزَّ وَجَلَّ قِيلَ لِلْعَابِدِ: إِنْطَلِقْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقيلَ لِلْعَالِمِ: قِفْ تَشْفَعُ لِلنَّاسِ بِحُسْنِ تَأْدِيبِكَ لَهُمْ»(269).
في هذا الحديث نجد إرتباطاً بين «تأديب العالم» و«شفاعته لمن أدّبهم» وهذا الإِرتباط يوضّح كثيراً من المسائل المبهمة في بحثنا هذا.
أضف إلى ما سبق أن في اختصاص الشفاعة بالعالم وسلبها من العابد، دلالة اُخرى على أن الشفاعة في المفهوم الإِسلامي ليست معاملةً وعقداً وتلاعباً بالموازين، بل مدرسة للتربية، وتجسيد لما مرّ به الفرد من مراحل تربوية في هذا العالم.

* * *

نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 10
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست