كانت صحبته لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله تعدّ امتيازاً وفضيلة، ولكن
مجرّد لقاء النبيّ لا يدلّ على عصمة هذا الشخص، ولا يعقل القول بعصمته. بل إنّ
الصحابيّ كسائر أفراد الأمة الإسلامية غير معصوم ويجوز عليه الخطأ والاشتباه، ولا
دليل على حجّية قوله في عملية الاجتهاد.
وذهب جماعة من فقهاء ومحقّقي المذاهب الإسلامية إلى هذا القول، كفقهاء
المعتزلة، مثل القاضي عبدالجبّار [1]، وفقهاء الأشعرية، كالكرخيّ [2]، ومن هذا القبيل الفتوى الجديدة للإمام
الشافعيّ [3]، وأحد
قولي الإمام أحمد [4]،
والآمدي في «الإحكام»[5]، والغزالي في «المستصفى»[6]
والشوكاني في «الإرشاد»[7] مضافاً إلى فقهاء الإماميّة.
القول الثاني: حجّية مطلق رأي كلّ واحد من الصحابة،
واستدلّوا لذلك على أنّ الصحابة تحرّكوا في أمورهم الدينية والمعارف من موقع التبعيّة
والطاعة المحضة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله ولم ينطلقوا في فتاواهم من موقع
التصرف الذاتي والرأي الشخصيّ، إذن فعندما يسمع منهم رأي أو يصدر منهم عمل خاصّ
فيما يتّصل بالشؤون الدينية، فحينئذٍ يمكننا الحدس القطعيّ أنّ هذا الرأي والعمل
إنّما صدر منه بالاستمداد من تعاليم النبيّ صلى الله عليه و آله وأحاديثه. ولذلك
فإنّ رأي الصحابة وعملهم حجّة كما هو الحال في الأحاديث النبويّة، ويعدّ مصدراً من
مصادر الاجتهاد والاستنباط الفقهيّ [8].
مضافاً إلى ذلك ما تدلّ عليه الأحاديث النبوية من جواز الاقتداء بالصحابة، مثل
مثل: الإمام مالك [10]، الرازي، بعض أصحاب أبيحنيفة، ويرى الفقهاء الأحناف أنّ
رأي الصحابيّ مقدّم على القياس [11] وهو أيضاً الفتوى القديمة للإمام الشافعي في «الرسالة»[12]، وأحد قولي الإمام أحمد [13]، والسرخسي في «الاصول»[14]،
والشاطبي في «الموافقات»[15]، وأبوبكر الجصّاص في «الأصول»[16]، وابن
القيّم الجوزيّة في «أعلام الموقّعين»[17].
[1]. المعتمد في أصول الفقه،
لأبوالحسن البصري المعتزلي، ج 2، ص 942.
[6]. المستصفى من علم الأصول، ج 1، ص
400. ويقول الإمام الغزالي: «الأصل الثاني من الأصول الموهومة، قول الصحابيّ، وقد
ذهب قوم إلى أنّ مذهب الصحابي حجّة مطلقاً، وقوم إلى أنّه حجّة إن خالف القياس،
وقوم إلى أنّ الحجّة في قول أبيبكر وعمر خاصّة؛ لقوله صلى الله عليه و آله:
(اقتدوا باللّذين من بعدي)، وقوم إلى أنّ الحجّة في قول الخلفاء الراشدين إذا
اتّفقوا. والكلّ باطل عندنا. فإنّ من يجوز عليه الغلط والسهو، ولم تثبت عصمته عنه،
فلا حجّة في قوله، فكيف يحتجّ بقولهم مع جواز الخطأ؟ وكيف تدّعى عصمتهم من غير
حجّة متواترة؟ وكيف يتصوّر عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟ وكيف يختلف المعصومان؟
كيف وقد اتّفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة، فلم ينكر أبوبكر وعمر على من
خالفهما بالاجتهاد ...».
[7]. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ من
علم الأصول، لمحمّد بن علي الشوكاني، ج 1، ص 247.