آخر وأكثر شمولية: إنّ تأثير الزمان والمكان في عملية الاستنباط يمكن تصوّره بثلاثة أنحاء:

ألف) تأثير زمان ومكان النزول، أو الصدور: فمن أجل استنباط الحكم من النصوص يجب ملاحظة جميع القرائن اللفظية والعقلية، المتّصلة والمنفصلة. ومن الواضح أنّ فضاء نزول آية من القرآن أو فضاء صدور رواية شريفة والظروف الزمانية والمكانية المقترنة معها والجوّ الحاكم في زمان نزول أو صدور النصّ، يعدّ أحد القرائن العقلية المتّصلة.

ب) تأثير زمان ومكان استنباط الفقيه في معرفة موضوع الحكم: فلا شكّ في أنّ الزمان أو المكان الذي يستنبط فيه الفقيه الحكم الشرعي، له تأثير في تعيين وتشخيص الموضوع لذلك الحكم، ويتسبّب بأن يصل الفقيه إلى هذه النتيجة، وهي أنّ لعب الشطرنج حلال، لأنّ الشطرنج في هذا الظرف الزماني أو المكاني لا يعدّ من مصاديق القمار الذي هو الموضوع الدقيق للحكم بالحرمة، أو مثلًا ما ورد في الآية الشريفة: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى‌ بَيْنَهُمْ» [1] حيث أمرت الآية المسلمين باتّخاذ سبيل المشورة والاعتماد على الآراء في إدارة المجتمع، وكما نرى أنّ موضوع المشورة يتغيّر بالتناسب مع عرف المجتمعات البشرية، وقد تبدّل من الحالة البسيطة والساذجة التي كان عليها في السابق إلى نظام مدوّن وبشكل مقرّرات منظمّة بحيث أنّ تحصيل رأي الناس في الاطروحات الأساسية للمجتمع أمر إلزاميّ في هذا العصر، ومن الواضح أنّ السير الصعوديّ لتحوّلات المجتمعات البشرية والتكامل العقلاني لها، يقتضي مصاديق جديدة أكثر تناسباً لموضوع المشورة.

ج) تأثير الزمان والمكان في تأمّلات الفقيه في النصوص: إنّ الظروف الزمانية والمكانية لربّما تؤدّي إلى أن ينظر الفقيه إلى النصوص الشرعية بنظرة جديدة، مثلًا أنّ تشكيل الحكومة الدينية واستلام الفقيه لزمام الحكم وقيادة الأُمّة وما يقتضيه المجتمع من حاجات كثيرة في هذا العصر، يتسبّب أن ينظر هذا الفقيه القائد بدقّة ونظرة جديدة للنصوص الدينية التي تتّصل بأمر الحكومة وشؤوناتها، وبالتالي يصل إلى نتائج جديدة، سواء في دائرة الموضوعات أو في دائرة الأحكام، أو يلاحظ المشاكل الفعلية في رمي الجمرات والازدحام الشديد هناك في أيّام الحجّ، وما يُسبّب من أخطار، فإنّ ذلك قد يدفع الفقيه الجامع للشرائط للتأمّل من جديد في النصوص المتعلّقة بأعمال الحجّ ويصل إلى فهم جديد للمسألة.

والظاهر أنّ المقصود من الزمان والمكان وتأثيرهما في هذا الكلام ناظر إلى القسم الثاني والثالث على الأغلب.

ولا يخفى أنّ تناسب وتزامن الاجتهاد مع عنصر الزمان المكان لا يخلّ بالأصول والمباني الأصيلة للكتاب والسنّة وقواعد الاجتهاد، لأنّ الفروع والأحكام الجزئية يمكن أن تستنبط بملاحظة الزمان والمكان في دائرة الأصول العامّة والكلّية لخطابات الشارع الثابتة دائماً.

الأمر الثاني: تأثير الزمان والمكان في آراء كبار الفقهاء

الواقع أنّ تأثير وتدخّل عنصر الزمان والمكان في صدور الأحكام لم يكن صريحاً في كلمات العلماء

[1]، سورة الشورى، الآية 38.