ثمّ إنّ استجلاء معالم شخصية الكليني الفذّة النادرة ، ورسم أبعادها العلمية في صحائف معدودة ـ مع ما لثقة الاسلام من مقام عالٍ ، ومنزلة رفيعة ، وشأن جليل ، وتضلّع في الفقه ، وشهرة في الحديث ، وتتبع عبقري في الرجال ، وعطاء زاخر على مرّ الأجيال ـ لابدّ وأن يكون على حساب أبعاد خصبة اُخرى ، وعندها فلن يعطى الكليني من الدراسة حقه .
ولكن ما لم يُدرك كُلّه ، لا يُترك جُلّه ؛ وإن تعذر علينا أمر الإحاطة بحياة وعطاء علم من أبرز أعلام هذه الاُمة ، فلا أقل من التعرّض ولو لبعض ملامح تلك الحياة وذلك العطاء الخالد ، فنقول :
بيئته:
عاش ثقة الإسلام الكليني في حقبة حاسمة من تاريخ العصر العباسي الثاني امتدت من أوائل النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ، وحتى الربع الأول من القرن الرابع الهجري ، وذلك في بيئتين مختلفتين ، هما الري ، وبغداد ، وقد امتازت تلك الحقبة الزمنية ـ إلى جانب تدهور الأوضاع السياسية كثيراً ـ انتعاش الحركة الفكرية التي استمرت بعطائها قوية نشطة دون أن تؤثّر عليها الأحداث الجسيمة كقتل الخلفاء ، أو عزلهم وسمل أعينهم !
فقد برزت في الري ـ وحاضرتها مدينة قم المشرفة ـ طاقات عملاقة في الفقه والحديث وغيرهما من علوم الشريعة الاُخرى ، وفي بغداد ـ وحاضرتها الكوفة ـ كذلك .
لقد أصبحت هذه المراكز التي ارتادها الكليني من أهم مراكز الإشعاع الفكري في العالم الإسلامي وصارت ـ خصوصاً الري وبغداد ـ ملتقى العلماء والمفكرين العظام من شتى المذاهب والفرق الإسلامية ، فقد تنوعت الثقافة ، وسادت آراء المذاهب ، وتوسعت الدراسة في تلك المراكز كالفقه ، والحديث ، والتفسير ، واللغة ، والنحو ،